رئيس التحرير
عصام كامل

التجربة الرواندية


بدون أوهام، ومن غير أكاذيبَ، وبدون وعود زائفة، ومن غير التباهي بمجدٍ زائل، وبلا أغانٍ وطنية زاعقة، وبأدنى التكاليف، تتسللُ "رواندا" تدريجيًا، لتكون واحدة من أهم الدول الأفريقية.


خلالَ أقل من 25 عامًا، تخلصتْ الدولة الأفريقية "الصغيرة" من آثار الحرب الأهلية الشرسة التي دمرتْ اقتصادها وأغرقتها في بحر مُتلاطمٍ من الدماء، وأعادتْ ترتيب أوراقها وأولوياتها، دون ضجيج، وانطلقتْ بسرعة الصاروخ، لتتحولَ إلى "نمر اقتصادي" داخل القارة السمراء.

الثقافة المصرية، شعبوية كانتْ أو نخبوية، تتعاملُ منذ عقود طويلة، وحتى كتابة هذه السطور، مع الدول الأفريقية، بسخرية وغمز ولمز و"ألش"، حتى إن بعضنا لو سألته عن "رواندا"، فإنه سوف يستدعي المشهد الهزلي لـ"محمد هنيدي" في فيلم "وش إجرام" الذي ورد فيه ذكرُها على سبيل الاستخفاف.

"رواندا"، التي خسرتْ مليون شخص في الحرب الأهلية، تمكنتْ من أن تخلق واقعًا جديدًا، طوتْ به صفحة الماضى القديم والأليم سريعًا جدًا، وحققتْ طفراتٍ غيرَ مسبوقة على جميع المستويات.

فورَ أن وضعتْ الحربُ الأهلية أوزارَها، أولتْ الحكومة الرواندية اهتمامًا كبيرًا بالزراعة وتطويرها؛ أملًا في تحقيق الأمن الغذائى لسكانها، فجلبتْ خبراءَ أجانبَ، وأنشأتْ شبكة هاتفية للمعلومات الزراعية، ومكتبًا للتصدير ونقل المحاصيل، ووفرتْ الأسمدة بأسعار رخيصة، ومعداتٍ زراعيةً للتأجير بأسعار مُخفضة، كما وفرتْ قروضًا مُيسرة للمزارعين، ولم تبتزهم أو تُعرِّضهم للإذلال أو الحبس، لتظهر نتيجة ذلك خلال 5 سنوات فقط، فارتفع إنتاج القهوة "مثلًا" من 30 ألف طن بعد الحرب إلى 15 مليون طن.

وفي ملف الاستثمار.. شجعتْ الحكومة الرواندية الاستثماراتِ الخارجية، ووضعتْ تشريعاتٍ جديدة، وقدمتْ تيسيراتٍ جادة وحقيقية لرجال الأعمال الأجانب، وأسستْ مجلسًا استشاريًا للاستثمار والتطوير، كان أعضاؤه من الروانديين ذوي الكفاءات العليا والمنتشرين في مختلف دول العالم، ويُنظرُ إلى البورصة الرواندية باعتبارها واعدة وجاذبة للاستثمارات الأجنبية!

ويبدو أن النوايا كانت مُخلصة، لا مجالَ فيها للمكر والتماكُر، فأثمرَ العملُ الجادُّ نتائجَ فاقتْ الخيال. وخلالَ أعوام قليلة جدًا، أصبح الاقتصاد الرواندي، الأسرعَ نموًَّا في القارة، وتضاعفَ نصيبُ دخل الفرد من ناتجها المحلي إلى 30 ضعفًا، وأصبحتْ واحدة من أهم وجهات المستثمرين والسياح بالعالم!!

خلال عامى "2000 -2015"، حقق الاقتصاد الرواندى نموًا في ناتجه المحلي بمعدل 9% سنويًا، وتراجع معدل الفقر من 60% إلى 39%، ونسبة الأميَّة من 50% إلى 25%، وارتفع متوسط حياة الفرد من 48 عامًا إلى 64 عامًا، وشددت منظمة دول تجمُّع السوق الأفريقية المشتركة (الكوميسا)، في أحد تقاريرها، على أن الاقتصاد الرواندى كان الأكثر نموًا على مستوى العالم خلال العام 2005!

سياحيًا.. وعلى الرغم من أنها دولة صغيرة، ولا تُشتهرُ بشيء يميزها عن الدول المحيطة بها، ولا تملكُ ما تملكه مصرُ "مثلًا"، فإنَّ إيرادات السياحة لديها بلغتْ أكثر من 400 مليون دولار في عام 2016 فقط، وتمثل السياحة 43% من إجمالى دخل البلاد. كما نمتْ السعة الفندقية للعاصمة وحدَها بما يزيد على 1000% خلال الأعوام العشرة الأخيرة.

وبيئيًا.. فإن العاصمة "كيجالى" تُصنَّف باعتبارها واحدة من أنظف المدن الأفريقية وأجملها، في الوقت الذي تحتلُّ فيها "القاهرة" مركزًا متدنيًا جدًا على صعيد النظافة والضوضاء والنظام بشكل عام.

وإجمالًا، وحتى لا أطيلَ عليك – عزيزى القارئ- وحرصًا على صحتك العامة، ومعدلات الضغط والسكر، فإن "رواندا"، خلال الربع الأول من العام الجاري، منحتْ موظفيها أعلى دخل في القارة السمراء، كما أنها تشهد أعلى معدل نمو، وأقل معدل بطالة، وأعلى نسبة تعليم، حتى أنها أطلقت قمرًا صناعيًا خاصًا بوزارة التربية والتعليم، فيما لا يزال الوزير المختص في أمِّ الدنيا "يعيد ويزيد" في الحديث عن "التابلت"، وسبل مقاومة الغش في الامتحانات.

فهل نتواضعُ قليلًا، ونضعُ التجربة الرواندية أمام أعيننا، ونستلهمُها ونستفيدُ منها، أمْ نواصلُ كبرَنا وسخريتنا منها، ومن الدول الأفريقية، بشكل عام؟!
الجريدة الرسمية