رئيس التحرير
عصام كامل

مذكرات موسى صبري (4)


«هيكل».. قلم الأستاذ بالأجرة 
كان من الواضح أن موسى صبري يؤجل الصيد الثمين إلى نهاية رحلته، فبعد ما أورده عن معركة صحفية بينه وبين "صلاح حافظ"، انتقل إلى "مصطفى أمين" كما أوضحنا في الحلقة الماضية، واليوم جاء دوره مع «هيكل» عدوه اللدود، وأزمته الكبرى.


ويبدأ "موسى صبري" بالتأكيد أن «هيكل» ظاهرة في الصحافة المصرية، وصحفي لامع وكاتب مثير، ويعترف أنه أنشأ أهرامًا صحفية، وحين سأل "مصطفى أمين" طلبة الصحافة في الجامعة المصرية من هو الصحفي الذي تتمنى أن تكون مثله كانت الإجابة بإجماع "محمد حسنين هيكل"، تلك البداية هي ما دأب عليها الكثيرون من معارضي "هيكل"، جميعهم يعترفون في البداية أنه صحفي نادر، وكاتب جيد، وموسوعي الثقافة، ثم يبدئون في كشف عيوبه أو مواقفه، لكنهم في النهاية يعترفون في النهاية بدوره وأهميته.

يختار "موسى صبري" نفس اللعبة التي اختارها مع "مصطفى أمين"، العودة إلى الدفاتر القديمة، ليسرد ما كتبه «هيكل» في عهد الملك فاروق، وقبل أن يترك للقارئ التصور الذي أحكمه هو، يقول في البداية إن "السادات" كانت له جملة شهيرة «عبد الناصر هو الذي بنى الأهرام وبنى هيكل» وكان يقصد أن "ناصر" استثنى "الأهرام" من كل قيود الاستيراد والعملة الصعبة، ولكن إن كان الاستثناء من أجل بناء صرح صحفي فإنه مقبول، أما القول بأن «ناصر» بنى «هيكل» فهذا صحيح، وقد استطاع هيكل أن يكون الصحفى الأوحد إلى جانب عبد الناصر.

ثم تطور إلى أن أصبح شريكا حقيقيًا في الحكم، حتى أن "عبد الناصر" أرسل أمرًا بأن ترسل إلى "هيكل" صورة من كل وثائق الدولة، وفي هذا لا يوجه اللوم إلى "هيكل".

كما يشير "موسى صبري" إلى أن "محمد حسنين هيكل" الحاصل على شهادة مدرسة التجارة المتوسطة استطاع أن يجد له مكانة في مجلة روز اليوسف، وبعد وقت قصير كان قريبا من السيدة روز اليوسف ثم تركها إلى آخر ساعة، وبعد وقت قصير كان قريبًا جدًا إلى صاحبها "محمد التابعي"، وعندما باعها "التابعي" إلى "مصطفى أمين" و"على أمين" في عام 1946، وكانا يصدران "أخبار اليوم"، وطلب إليهما التابعي أن يعينا «هيكل» واستجابا له، وبعد وقت قصير استطاع "هيكل" أن يكون قريبا جدا من "علي أمين" الذي أعجب به كثيرا، وتعهده بالرعاية والتشجيع وتبناه بكل عواطفه.

ويكشف "موسى صبري" أن "إحسان عبد القدوس" أخبره أن تلك طريقة «هيكل» الاستيلاء على الرأس الكبيرة في أي مكان، ولكن "هيكل" فشل في الاستيلاء على عقل أو قلب "مصطفى أمين".

لكن في هذا الهجوم أو التوصيف، لا يمكن إلقاء اللوم على "هيكل" بشكل كامل لو افترضنا صحة ما قاله "موسى صبري"، فكثيرون مثل "هيكل" يتمنون أن يكونوا قريبين من الرجل الأول، والمتملقون والمنافقون كُثر، وأن يصل واحد منهم إلى أكثر من شخص مثل "روز اليوسف" و"على أمين"، ثم "جمال عبد الناصر" فهو دليل أن الرجل لديه ما يملكه ويؤهله لذلك.

يكمل "موسى صبري" في الفصل الذي خصصه لـ"هيكل"، ليوضح أول سقطة مهنية لـ"هيكل" حين سافر إلى سوريا لتغطية مؤتمر الملوك والرؤساء العرب، وأبرق بما أسماه أحاديث الملوك والرؤساء، ثم اتضح أن تلك الأحاديث هي كلماتهم في جلساتهم الافتتاحية، وتوسط "كامل الشناوي" لإلغاء القرار.

يُمهد "موسى صبري" الطريق لما يقوله بالإفصاح أن "هيكل" تم تعيينه في عام 1946 بمرتب 30 جنيها، ثم حصل على علاوة 10 جنيهات في أول مايو 1948، وعندما عُين رئيس تحرير آخر ساعة تقاضى 50 جنيها و20 جنيها بدل بنزين، وقد اتخذ "علي أمين" هذا القرار برئاسة "هيكل" لأخبار اليوم حتى يمنع انتقاله للأهرام، وكانت هذه "رغبة جمال عبد الناصر".

وكانت لدى "هيكل" عقدتان، الأولى أنه من أسرة فقيرة حتى إنه لما توفى والده اكتفى بنشر خبر في الأهرام أن "جمال عبد الناصر" زاره في منزله للتعزية، ولم يُقم صوانا للعزاء، وقد طلب مرة من "جليل البنداري" أن يكتب عنه مقالا يذكر فيه أن والده أرسل له 220 جنيها عندما علم أنه صرف مرتبه قبل نهاية الشهر.

والعقدة الثانية أنه حصل فقط على شهادة مدرسة التجارة المتوسطة، ولذلك ادعى بأنه حصل على شهادة بالمراسلة من معهد أجنبي في فن الإعلام، وكان يحشر في سطور المقالات، "ولما كنا في الجامعة"، وادعى أنه حصل على شهادة الاقتصاد في مدارس الليسيه، ولم يكن في هذه المدارس قسم اقتصاد.

ولعل قصة العقدة في تاريخنا كثيرة وكلها في رأيي كذب، وإن كان "موسى صبري" اعتقد أن لدى "هيكل" عقدة، فـ"هيكل" نفسه اعتقد أن "للسادات" عقدة من أصله كما أورد في "خريف الغضب"، ولو دققنا كثيرًا لأدركنا أن الأمر لم يكن أكثر من حاجة للضرب من تحت الحزام، لكن تلك المقدمة لـ"موسى صبري" كانت لازمة لمدخله الأساسي، فيقول: «وفي نطاق حاجته للمال سخر قلمه وأسلوبه خلال عمله في "أخبار اليوم" في كتابة المقالات الإعلانية عن "أحمد عبود" المليونير المعروف في ذلك الوقت، وكان يتقاضى عن الإعلان الذي يستغرق صفحة كاملة عشرة جنيهات، وإعلان "آخر ساعة" في صفحتين 10 جنيهات أيضًا، وهذه بعض الأمثلة التي كتبها».

في عدد "أخبار اليوم" 11 فبراير 1950 وتحت عنوان «هذا كله تحقق في عهد فاروق» كتب هيكل: «جلالة الملك على ظهر الباخرة محمد على الكبير عام 1936 وخلفه سعادة عبود باشا، ما أكثر ذلك الذي حققته مصر في هذه الثلاثين عاما الأخيرة، الثلاثين عاما التي بدأت بميلاد جلالة الملك فاروق في ذلك اليوم المجيد من سنة 1920، والواقع أن الجزء العملي من تقدم مصر تركز كله في هذه الفترة من تاريخها، وقد أحس كل من في مصر أن الوطن على أبواب نهضة جديدة، وقام الذين رأوا أن واجبهم أن يساهموا بجهودهم في هذا العهد الجديد وراء الملك الشاب بكل قواهم وإيمانهم ليحققوا لمصر في كل نواحي التقدم ما يستلهمونه من ملكها العظيم».

«وكان أحمد عبود باشا على رأس هؤلاء الذين أحسوا بنهضة الوطن الجديدة، وهبّوا يضعون كل جهودهم لتحقيق ما يتمناه الملك لشعبه من رفاهية وتقدم، وتحدث عن كفاح عبود باشا في تمصير شركة السكر، وقصة شركة التقطير قصة يستحق صاحبها أحمد عبود باشا تقدير وطنه كله».

كما كتب "هيكل"، والحديث لـ"موسى صبري"، في 12 فبراير 1949 «صفحتين عن بنك مصر الذي يساهم فيه عبود باشا بعنوان "29 عاما في سبيل مصر"، وفي 22 أكتوبر 1949 كتب هيكل عن عبود باشا: «أحدث مصنع في العالم قصة معجزة خليج السويس"، وقال في هذا المقال: "أراد عبود باشا أن يحصل على 7 ملايين دولار، وقالت الحكومة الأمريكية تحت أمرك، وقال عبود باشا ألا تريدون ضامنا فقالوا يكفينا توقيع أحمد عبود، وهكذا تحققت كل المعجزة».

كما كتب «هيكل» عن أسرة «سباهي» صفحة كاملة في "أخبار اليوم"، وقال في مقاله تحت عنوان "قصة أسرة وكفاح نصف قرن".. القصة «في هذا الجيل، الجيل الخامس من الأسرة أطفال لا يزيد عمرهم على سنة أو سنتين، ولكنهم منذ الآن يلبسون ملابس العمال الزرقاء، ويسمعون أول ما يسمعون في حياتهم دوي الآلات والأنوال وماكينات النسيج والطباعة والصباغة، وتمتزج في دمهم التقاليد التي سارت عليها أسرة سباهي بالاتجاه الذي اختطوه لأنفسهم ولم يخرجوا عنه قط، ونشر صورة لعميد الأسرة، وصورة أخرى لطفل من الأسرة يرتدي ملابس العمال».

ثم يُكمل "موسى صبري" صورته بتوضيح موقف «هيكل» من أحمد عبود بعد ثورة يوليو، فكتب هيكل في 6 نوفمبر 1961 في الأهرام تحت عنوان "المراكز الممتازة في الاقتصاد المصري وكيف تم احتلالها؟".

«ليس بقصد الإساءة إلى أحد رسم هذه النماذج ولكن من أجل الحقيقة، وإذا نظرنا إلى ثروات مصر لوجدنا أشياء تثير التأمل، وأنا مثلا اعتبر أن السيد أحمد عبود باشا صاحب دور الصناعة المصرية لا يمكن إنكاره، ولكنني أريد أن أرسم صورة لثروة السيد أحمد عبود وما لحق بها في عهد الثورة الاجتماعية».

إن مجموع ما أخذته الحكومة من السيد "أحمد عبود" ما يقرب من 33 مليون جنيه، ثروة حصل عليها خلال حياته العملية، ومع تقديري للذي قام به، فلست أتصور أن فردا واحدا يستطيع في حياته إذا كان يدفع الضرائب بانتظام أن يكدس 33 مليون جنيه في بلد لا يزيد متوسط الدخل فيه عن 36 جنيها في السنة للفرد قبل الثورة، وعن 50 جنيها في السنة للفرد بعد 9 سنوات من الثورة، إذن كان هناك سوء توزيع الثروة.. فاحش ومخيف.
الجريدة الرسمية