رئيس التحرير
عصام كامل

من يريد ثورة؟


فتش عن المرأة! قد لا يعرف الكثيرون دور المرأة في صناعة الربيع العربى، فقد كانت الشرطية التونسية "فادية حمدى" هي من صفع الشاب التونسي "محمد بوعزيزى" على وجهه أمام الناس يوم السابع عشر من ديسمبر ٢٠١٠. كان "محمد" بائع فاكهة متجول يسوق عربة يدوية تعود العمل عليها من سن العاشرة، ليشارك في إعالة تسعة من إخوته وأمه وعمه المريض الذي أصبح زوجا لأمه بعد وفاة أبيه، وهو لم يبلغ الثالثة من عمره.


كانت محاولة مصادرة عربة الفاكهة في الصباح الباكر بالنسبة له حكما بالإعدام، واستعان بكل من يعرفه لمنعها، وفعلا وصل الأمر للمأمور الذي تدخل، لكن الأمر وصل إلى الشرطية التي ثارت لأنهم اشتكوا لمأمور القسم، وذهبت إلى السوق، ومعها زملاء لها، وبدأت في مصادرة الفاكهة والموازين، ولما حاول "محمد" منعها صفعته أمام كل من في السوق..

زادته الصفعة إحساسا بالذل والمهانة، فما كان منه إلا أن توجه لقسم الشرطة طالبا استرداد بضاعته، وشكى الشرطية التي ضربته، فرفض قسم الشرطة تسجيل شكوى ضد الشرطية أو إعادة بضاعته إليه.

امتلأت أذنية بتلك الكلمة التي قالتها الشرطية، وهى تهم بصفعة قالتها له بالفرنسية degage أي ارحل، وانقطعت السبل، وبلغ اليأس ببوعزيزى مبلغه، فقرر أن يشعل النار في نفسه أمام مبنى بلدية سيدى بوزيد، وهو يردد تلك الكلمة التي انتشر صداها في كل جنبات تونس، بل والمنطقة كلها فيما بعد..

وشكلت وفاة "محمد" بعد ١٨ يوما متأثرا بحروقه دعما إضافيا للثورة، حتى غادر رئيسها آن ذاك "زين العابدين بن على" البلاد بعد شهر من تلك الحادثة. وانتقلت روح الثورة إلى كل المجتمعات العربية التي تعانى من نفس الظروف: الفقر والقهر والتمييز. وخرج عشرات الملايين من المصريين وأنا معهم يوم الثامن والعشرين من يناير ٢٠١١ يطالبون بإسقاط نظام الفقر والقهر والتمييز..

وكانت شعاراتهم واضحة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، ودارت الأحداث التي نعرفها جميعا حتى وصلنا إلى اليوم.

اليوم تتردد من بعض الإعلاميين أنها لم تكن ثورة ويتبارى بعضهم في التقليل من شأن ما حدث، اعتمادا على فشل تلك الثورة في تحقيق ما نادي الشعب به، فمستوى الفقر تغير لكن إلى المزيد، ومستوى الحريات كما نرى، والعدالة لم تتحقق بل ربما زاد التمييز لصالح فئات بعينها.

لكن المشكلة لم تكن في أي من ذلك، فكم من ثورة تفشل وكم من مطالب لا تحقق، لكن ما أراه في عيون الشباب ربما يكون أخطر من ذلك. الثورة كانت عفوية وشعبية غير مسيسة ولا تهدف إلى الحكم.. لكن القوى السياسية التقليدية استغلت الثورة لزيادة أو تكريس سلطتها، ولم تضع تلك القوى اعتبارا حقيقيا لشباب ضحوا بأرواحهم من أجل التغيير السلمى.

ورغم كل محاولات إلصاق تهم العنف للثورة فإن كلنا يعلم أنها محاولات كاذبة وفاشلة، فلقد كانت ثورة سلمية بأهداف سامية، ولم تدخل أبدا دائرة الصراع على السلطة الذي دار بين القوى الطامحة أو الطامعة في الحكم، والذي سفكت فيه الدماء.

المشكلة الحقيقية هي التي أراها في عيون الشباب كلما جاءت ذكرى الثورة أو طالعتنا الصحف ووسائل الإعلام بخبر تبرئة أحد كبار الفاسدين أن الشعب فقد الثقة في أن القوانين التي صاغها الفاسدون بأنفسهم يمكن أن تدينهم، وأن تغلغل الفساد على مدى عشرات السنين يمكن أن تغيره الأمانى الطيبة والدعوات المثالية.

وللأسف فإن استخدام القوة أعطى لأجيال الشباب تصورا خاطئا أن التغيير السلمى غير ممكن، وأن الطرق القانونية لا تدين فاسدا، وأن السذاجة كانت السبب الأساسي في فشل الثورة. لكن كل هذا في نظرى غير صحيح لأن معناه أن العنف هو الطريق الوحيد وهذه قناعة خطيرة ومدمرة.

نحن لم نتعلم بعد من درس الثورة وأسباب فشلها وهى واضحة، وأهمها عدم القدرة على العمل الجماعى، فقد رأينا كيف تفرق الجمع منذ البدايات كل يبحث عن أحلامه، من كان يحلم بالسلطة سعى إليها، ومن كان يحلم بنشر الأيديولوجية سعى إليها، ومن كان يسعى إلى المال سعى إليه.

إن مشكلتنا الحقيقية هي عدم وجود حياة سياسية في مصر تسمح للفرقاء بالتعبير الحقيقى والواضح عن أنفسهم، وأهدافهم، مما جعل الكثيرين يتخفون خلف شعارات براقة.

أصارحكم القول، أنا لا أريد ثورة أخرى.. لا أريد مزيدا من الدماء.. لا أريد أن نسير في نفس الطريق لنصل إلى نفس النهاية. علينا أن نتعلم الدرس ونعلم أن التغيير الحقيقى يحتاج إلى عمل دؤوب لتغيير الثقافة وإقناع غالبية الشعب بالعمل الجماعى نحو التغيير.

نحتاج لحياة سياسية حقيقية يفرضها الشعب على حكامه، ففى النهاية الشعوب هي التي تضع سقف الحريات، وليس الحكام كما يدعى البعض، فسقف الحرية هو الحد الذي يقبل الشعب به، وليس الحد الذي يفرضه أي نظام.

التغيير الحقيقى يبدأ بالتغيير الثقافى ثم التغيير السياسي ثم التغيير القانونى والدستورى، وليس العكس كما حدث. اليوم وفى ذكرى الثورة معركتنا الحقيقية ما زالت هي معركة التثقيف، وميدانها القريب هو منع التلاعب بالدستور..

الدستور ليس نصا إلهيا ولكن جوهر الدستور هو ألا يسمح بأن يتم تسخيره لأشخاص. أمامنا جميعا الكثير حتى نتعلم من أخطاء الماضى ربما نستطيع أن نصل إلى بداية جديدة وصحيحة في المستقبل القريب.
الجريدة الرسمية