رئيس التحرير
عصام كامل

اسْتَفْتِ قَلْبَكَ!


منذ بضعة شهور كُنت مشغولا بسؤال هام أبحث له عن إجابة، وذهبت إلى مَوّلانا الشيخ جُوجل وسألته: ”هل فوائد شهادات الاستثمار حلال أم حرام؟"، والحقيقة مصادر الإجابة كانت كثيرة جدا، وكلما وجدت مصدرا يُفتي بالتحريم، أقوم بالانتقال إلى مصدر آخر، إلى أن وجدت مصدرا، يؤكد على أن شهادات الاستثمار ذات العائد الثابت وفوائدها حلال حلال حلال، وهنا توقفت عن البحث وقمت بمشاركة المصدر مع زوجتي وأحد أصدقائي معلقا "شهادات الاستثمار وفوائدها حلال"!


ومنذ أسبوع تقريبا تذكرت هذا الموقف بسخرية شديدة مع نفسي، بطريقة فرضتها على طبيعة عملي كباحث، حيث لايُفترض في الباحث أن يسعى لإثبات نظرية معينة، أو بمعنى آخر لا يجب أن يكون الباحث مُنحازا وإلا فقد البحث مِصداقيته، وهو ما استدعى من ذاكرتي موقفي المُنحاز في قضية رأي الدين نحو شهادات الاستثمار وفوائدها، وبغض النظر عن صحة كَونها حلالا أم حراما، إلا أنني بكل صدق كنت مُنحازا في بحثي نحو الاتجاه الذي يقطع بأنها حلال، والدليل أنني أخذت بالرأي الذي يسير تبع رغبتي وهو مرجع واحد رغم تعدد المراجع الأخرى التي تقطع بالتحريم، بل إنني توقفت عن البحث وشاركت هذا المرجع وكأنه المرجع الذي كنت أبحث عنه!

في الحقيقة، توقفت كثيرا مع نفسي، بعد هذا التحليل، وأدركت أن كثيرا من مُمارستنا في الحياة هي مُحاولات مُستميتة لإثبات ما نريد إثباته حتى وإن كان باطلا، لمجرد أننا نريد شيئا ما، والأمر أكثر بساطة وأقل تعقيدا في الأمور العامة، عن الأمور الدينية التي تحتاج إلى فتاوى وإن كان هناك الكثير، إن لم تتحقق لهم الفتوى التي تُرضيهم، فنعم الفتوى لهم هي (استفت قلبك)!

للأسف يُخطئ كثير من الناس في فهم قول سيدنا النبي صلي الله عليه وسلم لوابصة بن معبد رضي الله عنه (جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ نَعَمْ فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)..

وللأسف بعض الناس يجعلونه مطية لهم في الحكم بالتحليل أو التحريم على وفق ما تمليه عليهم أهواؤهم ورغباتهم، فيرتكبون ما يرتكبون من المحرمات ويقولون: (استفت قلبك)!! مع أن الحديث لا يمكن أن يراد به ذلك، وإنما المراد من الحديث أن المؤمن صاحب القلب السليم قد يستفتي أحدًا في شيء فيفتيه بأنه حلال، ولكن يقع في نفس المؤمن حرج من فعله، فهنا عليه أن يتركه عملًا بما دله عليه قلبه.

قال ابن القيم رحمه الله: "لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار).

والمُفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها أو كم ورد في شرح الأربعين النووية!

وفي النهاية، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ"، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم!

أحبائي أذكركم ونفسي أولا أن تُحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، فإن الموت حق وقادم لا محالة، اللهم أحسن خاتمتنا!

الجريدة الرسمية