رئيس التحرير
عصام كامل

جحود الأشقاء.. يلقي بـ«عم محمد» على رصيف شارع الفلكي

فيتو

بعينين زائغتين ونظرة منكسرة تُظهر ما تحمله النفس من إرهاق، جلس الستيني عم محمد سعيد، مرتديًا جلبابا رثا وجاكت سميكا، يحمي به جسده من سقيع الليل، كان عم سعيد منتعلًا "شبشب" متهالكا من الجلد ليحمى قدمه المنتفخة من حرارة أسفلت شارع "الفلكى" بوسط البلد، أما يداه فكانت تحمل حقيبة خبأ بداخلها أشياءه الخاصة، كان يتفحص الناس في رواحهم وغدوهم، فقد اتخذ من الرصيف بيته ونافذته التي تطلعه على ما يجري حوله.


كانت أنفاس عم محمد سعيد متلاحقة شارد النظر أخذ يسرد حكايته: "عندي 60 سنة، وعايش في الشارع، هنا في الفلكي، مش عايز حاجة إلا أني أعيش مستور أخد معاش من الحكومة تساعدني في تأجير حجرة صغيرة في أي منطقة عشوائية".

آلام مبرحة

صمت عم محمد قليلًا ثم انتبه قائلًا :"وعشان أضمن قوت يومي بدل من انتظار الحسنة من أصحاب القلوب الرحيمة، المارين من شارع الفلكى"، أمام مقهى الحرية وعلى محطة الأتوبيس القريبة كان عم محمد يجلس صامتًا، منتظرًا من يعطيه بضعة قروش تمكنه من شراء ما يقتات به، فقد اتخذ من الرصيف منزلًا له منذ أكثر من عامين، بعد خروجه من مستشفى أحمد ماهر، حيث كان يعالج من آلام مبرحة ألمت به، بعد أن طردته شقيقته وشقيقه من منزل والده بالدرب الأحمر.

يشرد عم محمد قليلًا ليعود مخاطبًا وكأنه يتحدث مع نفسه: "أنا في الأساس صنايعى شنط حريمى وكان عند أبى ورشة، وتربيت بها ولكن للأسف احترقت وضاق الحال"، وأخذ عم محمد يتذكر الأيام الخوالي :"لى ثلاثة أشقاء بنتان وولد، وثلاث بنات من أبى فقط، وبعد أن توفى والدى قامت أختى وأخى المقيمين معى في منزل أبى بطردى من مسكنى لعدم رغبتهم في وجودى معهم".

المأوى

لم يجد عم محمد من يحن عليه سوى محطة شارع الفلكي، التي يأوي إليها :"من ساعة ما طردني أخواتي أصبحت أسكن هذه المحطة، فهى بيتى وملاذى من أذى الشارع"، لكن الأمر لا يخلو من المضايقات "البعض يعاملني كمتسول والبعض الآخر ينفر منى".

فترة صمت أخرى أتبعها عم محمد بتنهيدة ساخنة "ليس لي أقارب بالقاهرة، فأقارب والدي من الإسكندرية، وكبار العائلة توفاهم الله، والأجيال الجديدة من العائلة لا يعرفوني فصلتي بهم مقطوعة، وعائلة والدتي من الشرقية وصلتي بهم مقطوعة من زمان ولا أعلم عنهم شيئا".

ضحكة ساخرة
خرجت من عم محمد على استحياء ضحكة ساخرة يشكو فيها ألم الأشقاء :"كنت أعمل بورشة أبى منذ أن كنت صغيرًا، وساهمت في زواج شقيقاتى وتستيرهم، ولكن هذا لم يشفع لى عندهم ولم يرحموا شيبتى وكبر سنى"، ألم الجحود كان يعتصره فبدا وكأنه ينظر للمجهول "أنا الآن بلا مأوى وبلا هوية فقدت بطاقتى الشخصية منذ فترة طويلة، وعندما ذهبت إلى قسم الدرب الأحمر لعمل محضر نظر إلى أمين شرطة وقال لى اذهب لاستخراجها بدون محضر فهى لا تحتاج إلى محضر، وعندما ذهبت لاستخراج أخرى من السجل المدنى قالوا لى لازم محضر بالفقد لإثبات أنها فقدت منك".

بلا هوية
وأصبح عم محمد بلا هوية فاقد الأهلية: "ليس لى إثبات شخصية غير ورقة مستشفى أحمد ماهر التي استخرجوها لىّ عندما كنت أعالج عندهم"، محاولات الطيبين لم تنقطع لرد عم محمد لأهله ليقضي ما تبقى من حياته بجوارهم "قام أحد الأطباء الطيبين بالإرسال لشقيقتى لإبلاغها بوجودى والحضور لأخذى من المستشفى، ولكنها لم تحضر وقامت المستشفى بإخراجى بعد أن عولجت من مرضي، فلم أجد مسكنا غير محطة أتوبيسات الفلكى، لتحمينى من حرارة الصيف وبرودة الشتاء أحيانا".
أخذ عم محمد يتمتم ببعض الكلمات "شوفى أيدي عاملة إزاى ومش عارف اتعالج ولا عارف دة إية، كان عم محمد يعاني من تضخم وألم شديد في الأصابع" وأخذ يردد "الحمد لله على فضله"، ثم عاد إلى صمته وشروده مرة أخرى.
الجريدة الرسمية