رئيس التحرير
عصام كامل

حدث بالفعل


كانت الأموال قد نفدت تمامًا من صديقي عندما قرر أن يبيع التليفزيون.. ورغم أنه كان يمثل تسلية كبيرة في ساعات الليل تعوضه عن ساعات النهار المرهقة التي يقضيها في محاولة الحصول على عمل، فإن ظروفه المادية الصعبة جعلته يقبل بسهولة فكرة البيع، ويتحمل معها تصبب العرق بغزارة وهو يحمل بضاعته الغالية في الطريق إلى محل أجهزة كهربائية يعلم أنه سيشتريه منه بأبخس ثمن.


خلال طريقه إلى موقف السيارات في رحلته للمحل، كان يحسب في عقله السعر المناسب للبيع.. مهما تنازل لإتمام الصفقة يجب أن يحصل على مبلغ كافٍ لسداد آخر قسط متبقي عليه من أقساط شراء التليفزيون، بالإضافة إلى توفير بضع مئات تُكفيه فترة لعل حظه يتحسن ويجد أي عمل.

استقل الميكروباص وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة، وقبل أن تجف قطرات عرقه أخبره السائق بغلاظة أن عليه أن يغادر السيارة أو يحجز مقعدًا مخصوصًا للتليفزيون.. قال إنه لا يملك سوى ثمن مقعد واحد فقط، لذلك سيضع التليفزيون على قدمه لكن قُبول اقتراحه بالرفض.. عندها تحدث بصوت أنهكه الإحراج وعيون امتلأت بالرجاء أنه يمر كثيرًا من موقف السيارات وسيحضر للسائق غدًا ثمن المقعد الإضافي عندما تتوفر لديه أموال.

ترجاه أنه سيجد سيارة الميكروباص الخاصة به بسهولة وسيُسدد ثمن رحلته.. ولكي يؤكد قدرته على تمييز السيارة أخبره أن الميكروباص لونه أحمر والكلمات المكتوبة على واجهته الخلفية مميزة لا يمكن أن تخطئها العين.. فشلت كل المحاولات اليائسة لإقناعه بقبول رجائه ونزل الرجل مطرودًا من السيارة.. يحمل العبء فوق يديه ويحاول أن يداري دمعة فرت وحدها كأنها أرادت أن تصرخ أمام الجميع: (صاحبي لم يعتد مثل هذه القسوة لكنها تقلبات الظروف).

بعد وقت قصير استطاع أن يستقل سيارة أخرى دون اعتراض من سائقها.. جلس منكمشًا في مقعده محاولًا التشبث بالجهاز، كأنه أراد أن يقول الجميع إنه يشعر بالحرج من تسببه في زحام، لكن أرجوكم لا تطالبونني بدفع أجرة مقعد إضافي.

تحركت السيارة وبداخلها صديقي الذي كان يلعن في سره حظه العثر ومعه السائق الذي طرده، لكن دقائق قليلة أثبتت له أنه أكثر الرجال حظًا في العالم، بعدما وجد ميكروباصًا لونه أحمر والكلمات المكتوبة على واجهته الخلفية مميزة لا يمكن أن تخطئها العين، وقد تحطم تمامًا على الطريق في حادث ضخم لم ينجو منه أحد!

الحكمة الإلهية وحدها منعت الرجل من الحصول على رجائه البسيط في ركوب الميكروباص، لكنها لم تكن تعاقبه بل أرادت أن تحفظه من خطر لم يستوعبه.

وأحيانًا يكون شعورنا بالخطر صادق، حتی إذا لم نستوعب مصدره.. ففي الأيام الماضية سافرت إلى مطروح في مهمة عمل.. مدينة جميلة لكن الوصول إليها من القاهرة يمثل رحلة شاقة تستغرق أكثر من سبع ساعات إذا كنت سيئ الحظ مثلي وجلست داخل أتوبيس "السوبر جيت".

رحلة عذاب عانيت خلالها سوء نظافة الأتوبيس، والتهوية السيئة، والأسوأ شعور داخلي يلازمني أن هذه السيارة المتهالكة سوف تنتهي في صفحة الحوادث لكن -الحمد لله- بائت توقعاتي بالفشل ووصل الأتوبيس إلى وجهته سالمًا.. لأستقل بعدها سيارة فارهة حديثة في طريقي من مطروح إلى سيدي براني، وعندها اكتشفت أن شعوري بالخطر لم يكن مخطئًا تمامًا فقد انفجر إطار السيارة..

وإذا كان قد أخطأ السائق وضغط الفرامل لكانت انقلبت السيارة.. لكنها مجددًا تدخلات من الحكمة الإلهية التي تُنقذنا من أمور كثيرة سواء شعرنا بها أو لم تدركها حواسنا.
الجريدة الرسمية