رئيس التحرير
عصام كامل

ويبقى الحب.. قصة قصيرة لـ«حسن زايد»

حسن زايد
حسن زايد

أسئلة حادة مدببة، لها مطارق، تنقر جمجمتي الصحراوية، دقات منتظمة، سريعة، متدافعة، لا تدع فرصة للتفكير المنتظم المستقيم، الذي يقر له في النهاية قرار.


شممت بين ثنايا حروف كلماتها، التي كانت ترد بها على كلماتي عبر نافذة الدردشة رائحة ما، لم أستطع تمييزها، غير أنها كانت تميل إلى الاختزال، والاقتصار، والرمادية، أشبه ما تكون باللغة الطاردة، الجافة، غير المكترثة، كنت حريصًا على الإدراك، والفهم، والاستيعاب، دون معرفة سبب لذلك.

وكانت لغتي تميل إلى اللين، والتبسط، والتلطف، حتى لا أستفز فيها نوازع التمرد، والتفلت، واستمراء القطيعة، ومع ذلك، استغلت كلمة فلتت مني مزاحًا، حتى قاطعتني شهرًا، ليلتها سكتت الحروف، وانخرست الكلمات، في مقابل حروفي التي شكلت كلمات مترجية دون جدوى، ليلتها أخرجت هاتفي وطلبت رقمها مرارًا، حتى قامت بغلق هاتفها، وظل الموقف مجمدًا شهرًا، خلاله تدفقت بداخلي دون إرادة مني مشاعر الشوق واللهفة.

لم أكن أتصور أن ذلك الحب فيس بوكي له هذا الألم، حب بلا ملامح ملموسة، مما يترك في النفس أثرًا أو انطباعًا أو ملمحًا يجري التعلق به، حيث إن موضوعه شخصية افتراضية متوهمة، لا وجود لها إلا في الحروف والكلمات، ومع ذلك شعرت في القلب وجعًا، كنت أجري على اللابتوب بلهفة، أفتحه، وأجلس متسمرًا أمامه، أستنطقه فلا ينطق، أحدثه فلا يرد، صوتًا أو صدى، وكأن حروفه وكلماته قد أصابها الخرس، وفقدت الحس والحركة والشعور، وفقدت حياتها انتحارًا على عتبة انقطاعها عني، ويظل حالي هكذا حتى يغلبني النوم، أو يحطني التعب.

بدأت المخاوف تناوش ثوابت قلبي وعقلي، وينهش الشك في لحم الحب بنهم نهشا موجعًا، وفي ليلة عصيبة، التقطت عيني لمبة وجودها على الجانب الآخر تشع لونها الأخضر، فسارعت إلى نافذة الدردشة:

ــ آمل فقط أن أعرف السبب.
ــ.....................
ــ من فضلك.
ــ..................
ــ أهذا قرارك النهائي؟!.
ــ.......................
طال الانتظار أمام النافذة الحوارية، ولم يرد جواب حتى صبيحة اليوم التالي، مرت الأيام التالية بطيئة متثاقلة لزجة، آلام الوخزات التي تنخر في وهاد قلبي تحرمني النوم، تعملقت الأيام، وأمست شهورًا كالجبال الرواسي، تجثم فوق صدري، تحول ما بيني وبين الحياة، البشر، الشجر، الطيور، المواشي، السحاب، والهواء، والنجوم في السماء، ولعل في الغموض، والضبابية السوداء، التي تلف الموقف في الجانب الآخر، ما يدفعني إلى القلق، والتوتر، والعصبية، لقد كنت أتصور دائمًا أن الموقف تحت السيطرة، لأني ما جعلت قلبي أسيرًا لأحد أو لموقف، وظننت أني أُسَيِّر الأمور وفق إرادتي، فإذا بالانفلات، والتمرد، والضبابية، والرمادية في مفردات الموقف، فإذا بي مقود بقلبي ولست قائدًا، كما توهمت، تفاجأت في تجاربي اليومية مع النافذة الحوارية، التي تبوء بالفشل في استقبال رسائلي في كل مرة، أنها استقبلت هذه المرة:

ــ لماذا ؟
ــ لأنك أردته فيسبوكيًا، من باب التسلية.
ــ لا.
ــ طلبت منك إثبات ذلك واقعًا.
ــ..................................
ــ لقد تزوجت.
ــ...............................
ــ أتمنى لك السعادة.
ــ أرأيت؟!.
ــ............................
ــ لو أردتني حقًا، لطلبت منه الخلع صباحًا.
ــ........................
لقد ضربت بمطرقة فوق رأسي على نحو خاطف، وتبعثرت كل الأوراق، وسقطت كل الحسابات، وشعرت أني مقدم على فترة عصيبة من حياتي، لقد مررت بالمشهد ذاته من قبل، من سنوات بعيدة، حين تزوجت محبوبتي، ولم أكن قد وضعت تصورا لحياتي من دونها، يومها ضاعت مني ملامح الطريق ومحدداته، وعشت آلامًا مبرحة، وأحزانًا عميقة أحدثت حفرًا داخل نفسي، صاحبتني آثارها وندوبها حتى الآن، ولا تزال صورتها تمر بخاطري مكللة بهالات الأحزان السوداء، المقبضة للنفس، ولا ريب أن ذلك جعل حياتي أكثر صعوبة، وجعلني أكثر حذرا، وتحوطًا من الوقوع في حبائل العشق بقلب مجروح نازف، مهما تقادم الجرح واندمل، والصعوبة في أن ينجرح الإنسان في نفس الموضع مرتين، والأكثر صعوبة أن يكون ذلك الموضع هو القلب، وهذه المرة كسابقتها، استسهلت الأمر، واسترسلت فيه، حتى حفر في سويداء القلب بالحديد والنار، في الأولى كان لدى من الوقت ما يكفي للملمة الأوراق والأوضاع وشعث النفس، والتعايش مع الجرح، أما هذه فليس هنالك وقت لذلك، في الأولى كانت الخيارات صعبة، أما هذه فليس هنالك خيار، ومر وقت لم أعد أحسبه، حتى فوجئت بها تفتح النافذة الحوارية، متسائلة:
ــ أنت زعلان.
ــ طبعًا.
ــ أنا تخيلت أن زواجي سينسيني حبك.
ــ..............................
ــ اكتشفت أني كنت مخطئة.
ــ...............................
ــ ما زلت تجري في عروقي.
ــ...........................
ــ هل ستنساني؟
ــ لم أعد أملك ترف النسيان.
ــ بحبك.
ــ وأنا أيضًا.
ويبدو أنني كنت في حاجة إلى بقاء هذا الحب فيس بوكي حيًا، وما زلنا نتواصل عبر نافذة الحوار، ولم يبق في جعبتي سوى الحب.
الجريدة الرسمية