رئيس التحرير
عصام كامل

ناصر.. من يمدحه يطلع خاسر


بالأمس تابعنا خسوف القمر، ولكن الحدث الفريد لم يشغلني عن اهتمامي بمتابعة غروب الشمس.. ذلك المشهد المتكرر قادر دائمًا على إحداث التأثير ذاته في روحي، بما يمثله من اختفاء الشمس وذوبانها وتحلل ضوئها.. إنها عظيمة للغاية، ورغم ذلك تختفي بلا أثر، ليبدأ الظلام ولسعة البرودة التي نتحملها انتظارًا لبداية النهار الجديد.


ومن الفلك إلى السياسة، فرغم مرور أكثر من ستة عقود على قيام ثورة يوليو، وقرابة نصف قرن على رحيل جمال عبدالناصر إلا أن الحدث والرجل لا يزالان يشغلان الجميع، خاصة عند مرور ذكرى ثورة يوليو.

بالنسبة لي كانت ذكرى "ناصر" تطل أحيانًا في رأسي، كلما مررت في طرقات شارعنا بالإسكندرية، حيث أتخيله صغيرًا مع أهله في طريقهم لإيصاله إلى روضة الأطفال في محرم بك، أو أراه طفلًا بدأ وعيه يتشكل حتى تمكن من الاعتماد على نفسه في الذهاب إلى مدرسة العطارين الابتدائية، حيث درس لمدة عام، أو تطاردني خيالات الرجل حتى اصطدمت يومًا بصورته المعلقة في "مخبز" أخبرني أصحابه بلهجة صعيدية أنهم أقاربه.. لهجة بها أصالة مصرية ذكرتني بإلقاء الأبنودي لقصيدة ضمت عبارة تلخص موقف الكثيرين من الرئيس الراحل (من يمدحه يطلع خاسر ويشبرولوا أيامه.. يعيش جمال عبد الناصر.. يعيش بصوته وأحلامه في قلوب شعوب عبدالناصر).

وُلدت بعد وفاة عبد الناصر بعشرين عامًا في مستشفى لا تبعد إلا دقائق قليلة عن مدرسة رأس التين التي درس بها الرئيس الراحل في المرحلة الثانوية، ولكنني لم أدخل تلك المدرسة إلا بعد حصوله على الشهادة الثانوية بأكثر من ثمانين عامًا للإدلاء بصوتي الانتخابي، بعد أوقات عصيبة حملت مظاهرات حاشدة في ميدان المنشية بالمدينة، وهو الميدان الذي تظاهر فيه "ناصر" مطالبًا بسقوط الاستعمار وعودة الدستور، قبل أن يعود إليه زعيمًا يعلن تأميم القناة.. ومن الماضي البعيد إلى الماضي القريب كانت صور "ناصر" متواجدة في المظاهرات للتعبير عن الاشتياق للعدالة الاجتماعية التي حلم "ناصر" بتحقيقها، قبل أن يتم إجهاض مشروعه ويصبح لحنًا لم يتم، ولوحة من الواجب إتمامها أيًا كانت الألوان المستخدمة أو طريقة الرسم.

لم تجمعني بجمال عبدالناصر إلا خُطب سمعتها فوجدتها صادقة، وكتب قرأتها فوجدتها تُنصفه في بعض الأمور وتنتقده في أخرى ولكنها أجمعت على وطنيته ونزاهته، وكلمات لعجائز ترحموا على رجل أراد لهم حياة كريمة، وقناعة داخلية بأن حكام مصر لهم ما أنجزوه أو أخفقوا في تحقيقه لذا لن يتواجد في القصة أبدًا ملاك مُنزه أو شيطان رجيم، ولكن سيكون أبطالها بشر، أصابوا وأخطأوا، ولكنهم جميعًا صاروا جزءا من ماضي واجب التعلم منه، واستكمال إنجازاته، ومعالجة عيوبه، وتجنب كوارثه.

الجريدة الرسمية