رئيس التحرير
عصام كامل

من هو المصري؟


أعرف أن الإجابة ستكون صادمة لصعوبة إثبات الإصول المصرية، لدرجة أن أحد رؤساء الوزراء وجد صعوبة شديدة في استخراج شهادة الجنسية بعدما فشل في إثبات إن جده أو أسرته كانت تقيم بشكل دائم منذ عام ١٨٤٨، والمناسبة بسبب الجدل الكبير الذي صاحب قرار البرلمان بشأن التعديلات على قوانين الإقامة والجنسية، وبغض النظر عن التطرف وسوء التأويل لشعب فيس بوك إلا أن ردود الأوصياء عليهم فيها من الجهل والعنجهية مايدعو للرثاء..


ذلك لأن الناس معذورة في سوء ظنها، نتيجة سوء العرض والتسويق للقوانين المهمة، بمعنى أن لدى الحكومة قضايا عادلة، ولكن عادة ما يتولاها محامون فاشلون، كما حدث قبل ذلك في قضية جزيرتي تيران وصنافير، وفيما يبدو أنهم لا يتعلمون ويكررون نفس الأخطاء بمنتهى الدقة..

بمعني أن القراءة الأولية للتعديلات تكشف أن الحكومة تعمل كالخواجة المفلس الذي يبحث في دفاتره القديمة، ولذلك راحت تبيع الجنسية مقابل سبعة ملايين جنيه، نحو ٤٠٠ ألف دولار كوديعة في البنك، في حين أن الحقيقة غير ذلك تماما، وأن قرار منح الجنسية له آليات وخطوات مختلفة تماما وفق إجراءات أمنية معقدة، تستبعد كل المشكوك في أمرهم، وعلي سبيل الحصر مواطني الدول التي تكن العداء لمصر، خاصة وأن البلد تخوض حربا حقيقية ضد أهل الشر، ولن يسمح لهم بالتسلل كعملاء لتنظيماتهم..

والأهم أن الحكومة التي لا تثق في عدة فصائل تخالفها وأحيانا تطعن في وطنيتهم، ولن تأمن لمن تمنحه الجنسية وسيظل في نظرها لَقيط ولن يتقدم لشراء جنسية أخرى إلا الميتة والنطيحة وما أكل السبع، ولن يشتريها إنسان ناجح لإن الناجح تفتح له الدول أبوابها بدون أية شروط.

ولكن هل كان الأجانب شرا كاملا؟ والإجابة لا.. فهم الذين أسسوا مصر الحديثة من خلال أسرة محمد على الألباني، وهو الذي أسس الجيش المصري وخلال تلك الفترة كانت مصر وخاصة في القاهرة والإسكندرية مدنا عالمية تستقطب الأجانب ورءوس الأموال للاستثمار، وكانت تضم اليونانيين والإيطاليين والمالطيين والفرنسيين والإنجليز والروس والإسبان، وأضعافهم من العرب والشوام، وهم الذين أسسوا الأهرام وروزا اليوسف والهلال والمسرح على يد جورج أبيض، والبلجيكي البارون إمبان مؤسس مصر الحديدة، وبهلر وعدس وشيكوريل وهم الذين أسسوا صناعة النسيج في مصر وغيرهم الآلاف من كل الجنسيات الذين جاءوا للاستثمار في مصر بدون دعايات أو وزارات للاستثمار، ولكن للمناخ الجاذب والحركة التجارية بعد شق قناة السويس.

وقتها كانت بورصة مينا البصل الأولى عالميا للقطن، ففي تلك الفترة كان العالم يقول مصر تنتج والعالم يستهلك، بينما كانت بورصتا القاهرة والإسكندرية بالمركز الرابع عالميا في الأربعينيات، ووقتها أقرضت مصر بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى ما يوازي ٢٩ مليار دولار وهو دين لا يسقط بالتقادم، ولم يتم استرداده حتى الآن، وفي عام ١٩٤٩ قدمت حكومة أمريكا إلى مصر طلبا بمنح معونة مالية إلى اليونان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية على أن ترد لاحقا، كما فعلت مع بلجيكا حيث أرسلت لها مصر عام ١٩١٨ مبلغا ماليا يقدر بأكثر من ٥٠٠ ألف فرنك فرنسي لإنقاذ الشعب البلجيكي من الفقر والمرض، ولذلك أرسلت إليزابيث ملكة بلجيكا رسالة بخط يدها تعرب فيها عن عظيم كرم الشعب المصري وما قدمة للشعب البلجيكي خلال الحرب العالمية الأولى.

وخلال ذلك كانت مصر ولاية تتبع الخلافة العثمانية حتى العام ١٩٢٢ بإنهاء الحماية البريطانية وإعلان مصر دولة مستقلة ذات سيادة وكان لا بد من دستور، ولا بد من شعب يصوت عليه، وفِي هذا الوقت كان المتواجدون من رعايا الدولة العثمانية والفرق بين الشامي والمغربي والسوداني والمصري، وجري البحث عن المصريين، ولم تكن هناك دفاتر أو تعداد، وفِي أغسطس ١٩٢٢ أعلن كمال أتاتورك إنهاء الخلافة العثمانية وتنازل تركيا عن ممتلكاتها في كل الولايات..

وهكذا أصبحت مصر دولة مستقلة، وحلا لمسألة الاستفتاء على دستور ٢٣ أعتبر كل من يعيش ويعمل في مصر مصريا ما لم يكن يحمل جنسية أخرى، ولهذا ستجد عائلات كثيرة من أصول تركية وشامية ويمنية ومغربية ومن الجزيرة العربية وشراكسة وأرمن، ويضيق المجال هنا على سرد أشهر المبدعين الأجانب الذين كانوا قيمة مضافة للنهضة المصرية، حينما كانت تحتضن كل من يلجأ لها، وفيما بعد صدرت عدة قوانين لتنظيم منح الجنسية وإسقاطها حتى وصلنا للتعديل الأخير الذي ناقشه البعض بعصبية وشوفينية مفرطة، بدون أن يتعرفوا على أصل الحكاية، وفِي ظني أن الغالبية لو أمعنت البحث في أصولها ستكتشف أنها ليست من أصول مصرية، وربما لا يوجد من يتمتع بإصول مصرية نقية.
الجريدة الرسمية