رئيس التحرير
عصام كامل

أشرف تعلبي يكتب: انقلب بنا القطار قبل أن يصل!

اشرف تعلبى
اشرف تعلبى

دقت الساعة 9.45، أعلن ناظر المحطة عن قدوم قطار 965 المتجه للقاهرة رصيف 2.. وصلت زوبعة من التراب، حولت لون السماء إلى رماد، وصل "الحورس" بعفراته.


سارعت لأخطف موضع قدم، تلاصق جسدى بجسدهم، تزاحمنا حتى وصلت للعربة، النوافذ بدون زجاج، إنارة تكاد تكون منعدمة، نظرت هنا وهناك لأرى أصحاب "الحورس"، لعلى أجد مقعدا ينتظرنى، لم أجد.. وقفت كثيرا ثم تنقلت بين العربات، كنت أصبر نفسى بأن العشر ساعات سأجلس بالتأكيد نصفهم.

عشر دقائق فقط مرت، وجدت قشر البيض المسلوق يتساقط فوق رأسى، التفت بأطراف عينى، لعله تساقط من شنطة أحدهما، وجدت طفلين يأكلان بين الشنط.

أصوات عالية، صرخات نسائية، نظرت جانبى الأيمن لأرى المشاجرة، إذ بسيدتين تتحدثان بصوت عال عن زوجة ابن إحداهن "أم الخير"، والتي تترك الخدمة وتذهب كل يوم لبيت أبيها بحجة مرضه.. أرضية القطار كلها قشر لب!

30 دقيقة جاء بائع الشاى من العربة الأمامية، بائع السندوتشات من الخلفية، "شاي..شاى شاى"... "عيش.. عش عش"، "ماى ماى"، اصطدم ظهرى بهم، أحدهم طلب مساعدتى في حمل بضاعته.

ذهبت إلى الحمام، إذ ببائع وآخر يفترشون ببضاعتهم فوق قطع الكرتون، رجعت، تسمرت مكانى صامتا، أفكر، أنظر جانبى، لم أسافر منذ سبع سنوات!

من العربة الأخيرة صعد شاب في العشرينات من عمره كان يحمل بين أصابعه العشرات من أكياس الموز، يخرج من جيب سيالته صوت الإسناوى.. يتمايل شمالا ويمينا برقبته الرفيعة، يردد خلف سيالته.. "صلى يارب على المدثر.. مصطفاك الهاشمى الأنور".

موز، موز، موز، بجنيه يا موز.. كان يتلاصق ويتزاحم، يشق طريقه بينهم، أوقفته سيدة، سمراء كالكحل اللامع، التجاعيد تملأ وجهها، ترتدى السواد من حذائها حتى رأسها.. قلبت في الـ3 موزات، لا يعجبها، طلبت أن يغيرهم، ففعل.. أكلت موزة صغيرة، استلذت بطعمها، فاصلت في السعر تريد أن تأخذ كيسين بجنيه ونصف، ظلوا يتناقران حول "النص" جنيه.. ثم رحل يهمس بين الركاب.. يا حلاوة يا موز.. يا سكرى يا موز.

جاري الملاصق.. نفخ بوجهى دخان سيجارته بغل، بعيون مهجورة، يخفى بها قطرات دمع همجية، بيده كيس داخله أشعة.. حدثنى عن همه، أنه يسافر شهريا لطنطا، لتتلقى والدته علاجها بمعهد الأورام، وأن إخوته مشغولون بحياتهم الخاصة.. يتخوف كثيرا أن تموت في القطار، فلا يعرف هل يكمل بها أم يعود من حيث أتى.

سريعا وصلنا بائع الجلاب "جلاب نجع حمادى.. يا عسل"، نفسى اشتهته، عينى تحسده، حلاوته أسالت لعابى، سمعت صوت معدتى، خشيت أن يقال أنى "اضرط" أخرج ريحا، اشتريت جلابا بخمسة جنيهات، أخذت ستة، في قرطاس ورقى كبير، يسع لكيلو لحمة، طمعى جعلنى أجبر اللسان على تناول السكر، أعشق المر، أكلت واحدة.. في كيس البلاستيك بجوار زجاجة المياه وضعت الجلاب، لأقدمه لقريبى القاهرى، كثيرا ما يطلب المعونات من هناك، كأن جنة الأرض في الحاجر.

صدمنى بظهرى طفل الـ 15 عاما، يحمل صينية من الألومونيوم، عليها أكثر من عشرين علبة كشرى، الواحدة بثلاثة جنيهات، أوقفه أحدهم، طلب الكشرى، أنزلت معه الصينية من فوق رأسه، وضعها فوق حافة المقعد.. أخذ الباقى، كنت جائعا، نفسى تراودنى، معدتى تلتصق ببطنى، عندما سألته عن جودته، لم يرد إلا بكلمات مقتضبة.. "هيشرطوا.. هما لقيين يأكلوا".

بعد ثلاث ساعات.. رد على تليفونه، القطار كله يسمع حديثه.. "والله ما حصل الكلام ده، أنت مزقوق عليا يا أحمد، احلف أنك مش مزقوق، أنت صاحبى وعيب تقول الكلام ده، والله ما حصل".

أنهى إجازته وعائد إلى كتيبته بالسويس، وجهه أسمر "طينه"، نحيف، طويل.. عاد ليتهته.. "والله ما حصل، أنا أكلت معك عيش وملح يا أحمد، أنت مزقزق عليا من مين، عليا الطلاق ما حصل، عيب عليك، كنا مع بعض في البيت، واخذ منى مائة جنيه سلف.. والله ما حصل.."

من خلفى يأتى صوت الست أم كلثوم من تليفون صينى..

ورضيع يبكى، تحاول أمه تهدءته، لم تستطع، يرفض الرضاعة.

الكمسرى يأتى مثل القدر المستعجل، رأيت اثنين يهربان منه إلى العربة الأخرى، وآخر هرب إلى الحمام.. تشاجر مع فتاة لا تريد حجز تذكرة.. تقول: "مش معايا فلوس والله يا ريس، وقعت فلوسى، والله ممعايا".

يرد عليها: هتنزلى لقسم الشرطة في المحطة الجاية.

فتقول له: "حرام عليك يا شيخ، أنا وليه غلبانة".

إلى أن انقلب بنا القطار في البدرشين قبل أن يصل.
الجريدة الرسمية