رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

العنوان الذي فضح عنصريتنا جميعًا !


فجر عنوان قصة صحفية، كتبتها الأسبوع الماضي، عن الطالب المحترم ابن السيدة بائعة الأنابيب ــــ كما وصفها عنوان التقرير ــــ الذي حل رابعًا في أوائل الثانوية العامة، الكثير من الجدل، والكثير من الإشادات، والكثير من النقد أيضا، بدعوى طبقية العنوان وعنصريته.


تأملت جميع ردود الأفعال بعناية شديدة، من يرى القصة كما صورناها بتجرد وموضوعية و«حسن نية» عن رباطة جأش طالب ووالدته في تحدي عقبات الحاجة والفقر، ومواجهة عالم مادي بطبعه، لم يعد ولم يكن يعترف بالأساس، إلا بموارد القوة بمختلف أشكالها للترقي في الحياة، أملا في تصدير هذه الحكاية لمن يعتبرون الفقر حجة للضياع، أو الاكتفاء بالفتات، ومن رآه وكأننا فجرنا «آلام فيرتر»، ندعو الشباب للإقدام على الانتحار والسلبية والانعزال وليس العكس.

لم أصدم الحقيقة من الغلو المبالغ فيه في نقد العنوان ونزعه من سياقه، في مصر لدينا نهم نحسد عليه في تشويه كل إيجابي ـــ حتى لو جانبه بعضه الصواب ـــ وإحاطة المجتمع بعوازل سلبية تمنع أبناءه من التفكير والبحث، والسير عكس المألوف.

وكذلك لم استغرب تناول الكثير من كتاب الرأي والمهتمين بالعمل العام في مصر لقضية الفقر، التي لم تبارح خيالهم منذ عقود، إلا باعتبارها مادة مثيرة للمزايدة على الجميع، حتى أصبح بيننا أكثر من 30 مليون مصري، أي نحو 28% من إجمالي تعداد الشعب المصري، لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية، من جميع مقومات الحياة وعلى رأسها «التعليم».

مثل هذه العناوين يا سادة، هي التي تفضح المجتمع وعنصريته للأسف تجاه الفقر والفقراء وليس العكس، أغلب مشاهير العالم عاشوا فقرا مدقعا، ولم يجد أحدهم أي غضاضة في الكشف عما كان يعانيه من ذل وحاجة، لتحصين العالم بقصص تحض على النجاح والمغامرة والجرى وراء الطموح.

عرفنا مؤخرا «لوكاكو» عملاق منتخب بلجيكا لكرة القدم، الذي صنع نفسه بنفسه، أحببناه بجنون كما لم نكن نعرفه من قبل، وكأنه واحد منا، بسبب قصته مع الفقر المدقع، التي هزت السوشيال ميديا طوال الأسابيع الماضية، وقبله كانت حكاية نجمنا العالمي محمد صلاح تدرس في العالم بأكمله.

تجربة «صلاح» شديدة الذاتية كانت مصدر إلهام لعشرات الأفلام الوثائقية التي تناولت سيرته، وأبرزت قصة حياته، وكيف كان يعاني بالصغر في ظروف غير آدمية بالمرة ــــ ليس لتجريسه ــــ وإنما لإلهام الشباب بضرورة حب العمل والتفاني فيه، والبحث عن «ثقب إبرة» لالتقاط الفرصة، وعدم الاتكال على الدولة أو الظروف لتحقيق الأحلام، وهذا سر كل هذا الحب والاحترام الذي يلاقيه النجم المصري في كل مكان يذهب إليه، خصوصا أنه لم يتنكر لسيرته الأولى، بل ولم يترك من كانوا مثله في بدايته، ويتبرع بالنصيحة قبل المساعدة لمن يحتاجهما.

أبناء الأغنياء عندما يتفوقون، فهذا هو الطبيعي ليس لأنهم «أبناء ذوات»، ولكن لأنهم صُرف عليهم عشرات وربما مئات الآلاف سنويا للوصول إلى هذه النتيجة، ومن المنطقي عندما تتوفر بيئة ناجحة لأي شخص أن ينجح وبتفوق، أما عندما يتغلب الفقير وخصوصا في أيامنا هذه على ظروفه التي قد تقهر أي إنسان عادي، بالتأكيد هو خارق للعادة، وقصته يجب أن تحكي للكبير والصغير ــــ ليس لتجريسه ــــ وإنما لتوقيره وإعطائه حقه الطبيعي، وعلى الدولة أن ترعاه، فهذا هو مسئول الغد الحقيقي، صاحب القدرة والقوة على تخطي الصعاب، وخلق البيئة الناجحة من العدم.

إن لم يكن الفقر في نظر من ينتقدون العنوان عيبا، ما الذي يضيرهم إذن في «بروزة» مهنة شريفة بعنوان قصة صحفية، ولماذا لا يفتخرون بها أفضل من «أجعص» وظيفة في مصر، وهل يدرك كتاب الرأي والمثقفين أنهم يدمرون بهذا التناولات النقدية السلبية الهدامة، أي محاولة لتوطين التعليم الفني القوى والحقيقي في مصر، الذي هو سبيل نهضة العالم بأسره !

لماذا إذن سيتجه أي طالب لدراسة الميكانيا على سبيل المثال، في الثانوي الفني بعد تطويره وتحديثه بأفضل الوسائل التكنولوجية، ليتخرج منه مهنيًا بارعا، لا يعمل بـ«الفهلوة والحب» كما هو سائد حاليا، بل بالعلم والثقافة، طالما سيكون بنهاية المطاف في نظر مثقفي المجتمع قبل عوامه مجرد «ميكانيكي» التقرب منه أو الحديث عن مهنته وإنجازاته «عيب ووقاحة».

ذموا الفقر نفسه كما تشاءون، وجهوا له كل الإهانات التي تخطر لكم على بال، ولكن حفزوا الجميع على النهوض، وعلى بناء تجربة ذاتية نفخر بها جميعا، غير ذلك عفوا.. هذا هو العبث بعينه !
Advertisements
الجريدة الرسمية