رئيس التحرير
عصام كامل

«عيد حسن».. طريقة حياة


دق جرس الهاتف.. الزميل ياسر نصر: البقاء لله.. عيد حسن في ذمة الله، كنت خلف عجلة القيادة، أتبين الطريق المزدحم بالسيارات والمارة.. أخذتني ذاكرتي للعودة إلى سنوات من العمر قضيناها معًا، عدت إلى محطة ١٩٩٤م، عندما دخل عليّ عيد في مكتبي بجريدة الأحرار، وعلى جبهته صمت مهيب، ربما يكون الخجل أهم ملامحه، وربما تكون صعوبة لقاء مدير تحرير سيعرض عليه عيد العمل معه.


أخذني هذا الشاب من الطلة الأولى إلى مساحة من الحوار الشائق، شيئا فشيئا تنازل هو عن صمته، ونسيت أنا موقعي لنصبح صديقين، أدهشني "عيد" بملكاته ومواهبه وصمته السائد على حياته، إن تكلم نطق بما هو جاذب وما هو مذهل ومدهش، مصنع متحرك للأفكار الصحفية الأخاذة، صرنا أقرب مع الأيام، لم يشك يوما من الأيام أمامي ولا أمام غيري، كنا نتصوره ملاكًا يسير على الأرض.

كان التعيين في الأحرار تغلب عليه بعض الأيديولوجية وكثير من المجاملة، وبعض جبهات تتصارع، و"عيد حسن" لم يكن ضمن كل هذه الحسابات، تغيرت الأمور بعد عامين عندما عاد إليها مؤسسها الدكتور صلاح قبضايا (رحمه الله)، ناضلت من أجل تعيين "عيد حسن" ليصبح عضوًا بنقابة الصحفيين، وأصبح عضوًا بها، مضيفًا إليها رمزًا من رموز العطاء والعمل والإخلاص والاجتهاد، ولأنه موهوب وصاحب أفكار نيرة، كان هو صاحب فكرة «يوم اليتيم»، حتى أصبح علامة في تاريخنا.

إشارة المرور، وأصوات آلات التنبيه أعادتني إلى حيث موقعي في الزمن الحاضر، مضت السيارات في بطء معتاد، لأغوص مرة أخرى، تتراءى الصور على ذاكرتي لترسم بعض ملامح الإخلاص للمهنة وللإنسانية في "عيد حسن".. تلتقي جبهات متعارضة ومتصارعة من الصحفيين تخطط بليل، وعيد حسن مشغول بين مصادره، يلتقي اليوم أطباء، وغدا رجال اقتصاد، وبعد غد قادة سياسيين، وهو صديق مقرب من كل مصدر تعامل معه، حتى صار أيقونة للتسامح النبيل.

لم يختلف يوما مع أحد حتى من ظلموه، كان قلبه فدادين من الخضار والهدوء والعلو، كانت نفسه مطمئنة تعلو فوق الصغائر، كان رمزا للإنسانية في نضجها وعطائها وبذلها ونرجسيتها، إذا طرح عنوانا فكأنما صاغ بيت شعر، إذا كتب مقالا فكأنما اختزل الحكمة كلها بين سطوره، إذا كتب تحقيقا فإنه العنوان الأبرز للمعنى المهني للتحقيق، كان يكره صحافة التليفون، مفضلا لقاء مصادره وجها لوجه.

في السابعة صباحا يعدو ويتقافز عيد حسن بين الشوارع والحواري والأزقة زائرا المواقع الملتهبة بالأحداث، باحثًا عن صيد ثمين يقدمه للقراء، لم يكتب يوما من الأيام مذكرة احتجاج على ظلم وقع عليه، ولم يقدم شكوى ضد زميل عاداه أو اختصمه أو نال من حقوقه، كان دوما هو الملاذ الآمن لكل من أراد شيئا.. وسط الصخب لا تراه، تجده هناك في زاوية منكبا على كتابة موضوعه الذي يعيش فيه ويتعايش معه.

أخيرا وصلت بي السيارة إلى مستشفى الزراعيين، زملاؤه الذين رافقوه في تغطية وزارة التموين يقفون مشدوهين أمام الحدث الجلل، كل واحد فيهم له معه قصة تكسوها طيبة وتسامح ونبل "عيد"، دمعات محبوسة تطاردها ملامح رجولة ترفض أن تنسال على الخدود حتى لا ينهار أبناؤه.. زوجته هناك تجالس الوحدة والرهبة والفراغ الذي تركه رجل كان رمزًا للزوج والأب والقيمة والقامة.. كان الله معها ومعنا.

رحل أبو اليتامى وهو لا يزال معطاءً، رحل في لحظة تركت في نفوسنا بحيرات من الفقد والوحشة والقهر، رحل تاركًا أبنيه وزوجته.. تاركًا رفاقه وأصدقاءه وزملاءه، تاركًا قراءه، تاركًا الأيتام بعد أن قدم لهم هديته التي كتب الله لها أن تعيش إلى الأبد.. وداعًا صديقي الذي لم أرَ منه إلا دروسا ما زلت أقف أمامها مندهشا من فرط بساطتها وعمقها وأثرها في نفسي ونفوس كل من تعاملوا معه، لم يكن صديقًا أو زميلًا أو رفيقًا، وإنما كان طريقة حياة..
الجريدة الرسمية