رئيس التحرير
عصام كامل

القطار الأخير


لا أعتقد أن المواطن الألماني أو نظيره الفرنسي أو ذلك الياباني أو غيرهم من سكان الدول المتقدمة، ينتابهم نفس القلق الذي يطاردني كلما صعدت إلى القطار.. الإحساس بقطرات العرق أسفل عنقي حتى في أشد ليالي الشتاء برودة.. الخوف من حوادث القطارات.. علاقتي بعربات القطار بدأت منذ سنوات طويلة.. منزلي وعملي وجامعتي لم يجتمعوا أبدًا في محافظة واحدة، لذلك أصبحت رحلة القطار ضرورة تلازمني مرة واحدة في الشهر على الأقل.


لا أستطيع بدقة تحديد أعداد حوادث القطارات التي قرأت عنها في الصحف أو طالعتنا مشاهدها المؤسفة في وسائل الإعلام خلال السنوات الماضية، مثلما لا أذكر كل من صادفتهم داخل عربات القطار، ولكن بعضهم لا أستطيع نسيانه.. ذلك الضخم الذي لم يُكفيه مقعده فزحف بذراعه ليحتل نصف مقعدي خلال نوم عميق لم يقطعه سوى همهمات، ميزت منها عبارة "الله يلعنك يا مديحة" قبل أن يبدأ في تسديد الضربات بذراعه كأنه يصارع أحدهم..

وكلما أيقظته لأتأكد من جدية أفعاله أجد عينه مفزوعة، كأنه استيقظ للتو من حلم مزعج قبل أن يغط مجددًا في النوم، ليبدأ مرة ثانية في لعن مديحة وتوجيه الضربات تجاهي.. لعنك الله يا مديحة فقد حطم الرجل ضلوعي مثلما حطمت له أعصابه.. أما تلك السيدة المسنة فقد كانت ترتدي الأسود حتى أظن أنه قد انطبع على ملامحها وترك ظلاله في نبرة صوتها..

ركبت القطار معي من الإسكندرية في رحلته الطويلة إلى الصعيد مرورًا بالقاهرة.. نصيبي أجلسني بجوارها.. تأملتني قليلًا قبل أن تبكي لأنني ذكرتها بابنها الذي قُتل في الثأر.. زادت كلماتها مخاوفي من الرحلة.. سردها لمشاهد الثأر بين العائلتين، وسقوط ابنها ضحية وسط المعارك استحوذت عليَّ..

كرهت عائلة القاتل حتى ظننتهم أعدائي، وطاردتني خيالات ألا أغادر القطار في القاهرة، واستكمل الرحلة معها إلى الصعيد باعتباري شقيقه الذي جاء للقصاص من القاتل.. خيالات حمقاء تليق بأحد المسلسلات الرمضانية.. وذلك الرجل النوبي الودود الذي طبعت السنوات تجاعيد مسالمة في ملاحمه الطيبة، رأيته يأتي مسرعًا من مقعده في مقدمة العربة صوب مقعدي في آخرها حاملًا بيده "ساندوتش" ليخبرني أن آذان المغرب انطلق ولكنه لاحظ خلال مروره في العربة أنني الوحيد الذي لم يأكل حتى الآن.. 

وجدت طعامه البسيط أشهى بمراحل من ذلك السحور الفاخر الذي عزمتني عليه إحدى المؤسسات في الليلة ذاتها.. أحيانًا تشعر إنك منسجم وسط الغرباء، وغريب رغم وجودك وسط وجوه مألوفة!

خلال السنوات الماضية تضاعف سعر التذكرة ولكنني لم أشعر بأي تحسن في الخدمة، مثلما لم يغادرني ذلك القلق الذي ينتابني كلما صعدت إلى القطار خوفًا من أن تكون رحلتي الأخيرة.
الجريدة الرسمية