رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

حكاية ابن «بائعة الأنابيب» الرابع في أوائل الثانوية

فيتو

ثلاث سنوات في المنفى الاختياري، وحده يعيش صمت الفقر، يصاحب برد الليل، وقيظ الصيف، يلامس أحلامه كل ليلة، يبدو أنه كان يضعها في لوحة كبيرة بجواره على الحائط المتهالك، ينظر إليها كل يوم، ويتحدث: من أنا، وكيف حالي؟ ولماذا يجب أن أغير واقع أسرتي فورًا؟ هكذا كان يحكي محمود محمد زكي بديوي، الرابع مكرر على مستوى الجمهورية أدبي في الثانوية العامة.


قدم أوراقه للالتحاق بالثانوي العام رغم ضيق الحال، تحملت والدته «الحاجة نبيهة» مشقة مصاريف المنزل من «كد يدها»؛ يعرف جيدا كيف ستعاني والدته، هي بلا عائل، مات زوجها، طفلها محمود لم يكن قد تخطى العامين من عمره، مصاريف أسرة بأكملها، أكل وشرب، دروس خصوصية، يا الله.. يجب أن تكافأ هذه السيدة.. يتحدث محمود مع نفسه، ويقوي نفسه بالألم والنسيان.



يحفظ محمود القرأن كاملًا، يداوم على الصلاة، يحتاج القوة الروحية الخارقة، ولن يستمدها إلا من الدين والالتزام، يريد إخراس ذلك الأنين القاتل الذي يداهمه كل لحظة، يوسوس له عن مشقة الفقر، وضيق اليد، وكأنه يريد وضع عثرات وكبوات أمامه ليترك طريقه، يزيد في عصر كرامته، ويضع له يوميا عدسات مكبرة على صورة والدته، التي اتجهت للعمل في «بيع الأنابيب»، رغم قسوة المهنة التي يهرب منها الرجال، يكشف له كيف تملك الشقى من وجهها، وحفر كؤوسًا من المرارة على وجنتيها.


يمر العام الأول، يقاتل محمود، يتوغل في فؤاده حلم السفر للخارج، صورته وهو يجلب المال الوفير لأسرته لا تفارق خياله؛ ترك أحلام العوام في الالتحاق بعلمي العلوم والرياضيات، زهد في الطب والهندسة، وسخر نفسه للألسن رغم تفوقه؛ ليعلم جيدا لغة الغرب، الذي سيذهب إليه قريبا، يقرأ القرآن يوميا، يترك كل متاع الصبِىّ، أصلا لم يعد لخصائص هذا العمر وجود في حياته، هو يعيش سمات الرجولة الكاملة منذ سنوات، وبات لديه مناعة محصنة ضد الرفاهية.

في غسق الليل وعلى أضواء خافتة يذاكر دروسه، ينظر من جديد للصورة الكبيرة لوالدته التي زادها العام مشقة، وارتسمت عليها المزيد من ملامح الوهن، يتحدث بابتسامة خافتة: كم أنت جبان أيها البؤس، ولكن لم تعد ضرباتك موجعة، عام آخر وسنتغلب عليك ونهزمك شر هزيمة.


العام الثالث والحياة تبدو أقل حدة، بدأ محمود يعلم جيدا أن الأزمة لا تخصه وحده، الأغلبية في مصر تعيش أسمى معاني الحزن المتكررة في الاحتياج، والشكوى، وقهر الفقر؛ تعلم كيف يواجه آلامه، ملامحه باتت أقوى من ذي قبل، يرى استفزازات الحياة وثباتها على وتيرة واحدة، يسخر منها.

يخاطب الفقر الذي يلازم العائلة بإصرار وتحد: هذا العام سأثبت لك أيها الأرعن من فينا سيكسب الرهان، لن أسمح لك بالتمادي في ضخ الدموع بعيني والدتي، كلما ضعفت أمام فقر الحال، وكثرة المطالب، وبعثرتها هنا وهناك.

الامتحانات على الأبواب، يجلس محمود وينظر إلى الحائط، يلامس صورة والدته، يخاطب الفقر الذي أوصلها إلى هذا الحال متحديا: أيها الجاحد قلت لك سُتقهر هذا العام، أريدك أن تتذكر حكاياتنا سويا في هذه الغرفة، سخط والدتي اليومي بطريقتها العفوية، عن الأسعار التي تكوي وتلهب الجيوب، سأمر من هذا العام قويا، وأعدك بهزيمتك، سأقفز إلى مستقبلي الذي حاربتك من أجله، وسترحل عنا، أيها القبح المرتجل النهم، الذي طاح فينا طولا وعرضا طوال الأعوام الماضية.


تظهر النتيجة، يحقق محمود حلمه، يقتنص المركز الرابع مكرر على مستوى الجمهورية أدبي، تتسمر ملامحه على صيحات والدته وأقربائه، الجميع يبكي فرحا، وهو وحده يتملكه الإصرار، يخاطب البؤس الذي يحاصره من جدران المنزل، لا أحد يعرف اللغة المتبادلة بينهما، ولكن محمود يعيها جيدا.

يقف فجأة ويقطع وصلات الفرح ويتحدث بقوة مفرطة: الحصاد اقترب إيها البؤس، لن نكرر المعزوفات الحزينة سويا من الآن، لن تتملك من المستقبل، كما هشمت الماضي.

يدور محمود وينظر يمينا ويسارا، يحدد الطريق الذي سيسلكه بعد أربعة أعوام من الآن، يخاطب فقره ساخرًا: لن تقذف بنا إلى متاهات حزينة بعد اليوم، لا طوابير ولا انتظار قاتل أملا في فتات المصروف، وكأنك كنت متعدد المواهب فقط في تكدير صفونا، والمقامرة بأحلامنا.


ينظر إلى والدته ويعانقها، ويغلق خط الموبايل، ويمسح برفق على خديها: كفى حديثا، بدأ الجد، وانتظروني بعد أربعة أعوام من الآن، خريجا يتلهف له العالم.
Advertisements
الجريدة الرسمية