رئيس التحرير
عصام كامل

الفراعنة الذين هزمتهم «قطة»!


عندما فكر الفرس في غزو مصر عام 525 قبل الميلاد، أمر قائدهم "قمبيز" بإحضار أعداد كبيرة من القطط مع الجيش، ورسم جنوده صور القطط على الدروع، ولما بدأت المواجهة بين الجيشين في معركة الفارما (بورسعيد حاليا)، أطلق الفرس القطط، وبمجرد أن رآها المصريون رفضوا قتلها أو إطلاق رماحهم عليها، لأنهم كانوا يقدسون بعض الحيوانات من بينها القطط، ثم تقدم جنود الفرس يحملون دروعهم المرسومة، والمصريون على نفس موقفهم، وكانت النتيجة أن هُزم الفراعنة هزيمة ساحقة، وقُتل منهم أعداد كبيرة يقدرها بعض المؤرخين بنحو 50 ألف جندي، وفروا من أمام جيش قمبيز!


لم يكن الفرس على هذه الدرجة من الفهلوة بالطبع، ولكن كانت تلك الخدعة اقتراحا من خائن اختلف مع الفرعون، وفر ليتعاون مع الأعداء، وأشار على "قمبيز" بهذه الفكرة، لمعرفته بمقدسات المصريين!

لم تستوقفني هذه القصة لطرافتها فحسب، لكنها أشعرتني بأن "المقدس" هو نقطة ضعف الشخصية المصرية منذ آلاف السنين، مع اختلاف صورة هذا "المقدس" في كل مرحلة تاريخية، تستطيع أن تلمح قطط قمبيز في خداع محمد على للفلاحين المصريين الذي جندهم في جيشه، بادعاء أنهم جيش المؤمنين الذي يحارب الكفار، وفي سيطرة العثمانيين على مصر بدعوى أنهم دولة الخلافة، والغريب أن من تدخل لحماية العثمانيين "حماة الإسلام" فيما بعد من أطماع محمد على، هم دول الغرب "الكافر"!

قطط قمبيز تراها حاضرة وبقوة أيضا في الشعارات التي رفعها تيار الإسلام السياسي منذ السبعينيات، وحصد بها مكاسب سياسية وثروات ضخمة، ما زلنا نعاني من سطوتها حتى الآن، دائما وأبدا تعلن الأنظمة السياسية عندنا أنها تحمي الإسلام المعتدل، رافعة صورة قطط قمبيز في وجوه كل من يعارضها أو يرفض سياساتها، وفي الوقت ذاته هناك معارضة لا هم لها سوى التباكي على دولة الإسلام الضائعة، وتبذل هذه المعارضة كل ما تستطيع لإحياء تلك الدولة، بداية من محاولات السيطرة على الشارع، ومرورا باستغلال الوسائل السياسية المتاحة، وانتهاء بإطلاق الرصاص على خصومها، لو لزم الأمر..

كان الرئيس أنور السادات يُلقب بالرئيس المؤمن، وكلما ألقى خطابا، كان يرفع في وجوه الجميع صورة قطط قمبيز مؤكدا أنه "رئيس مسلم لدولة مسلمة"، أما خصومه فلديهم نسختهم من القطط المقدسة، التي تعتبره كافرا يستحق القتل!

والمشكلة الكبرى ليست في علاقة المصريين بـ"المقدس"، ولكن في تعدد نسخ هذا المقدس، وإخضاعه للأهواء السياسية، وإيمان أكثر من طرف بأنه صاحب وجهة النظر السليمة والدقيقة عن هذا "المقدس"، حتى تحولت الدعوة إلى بيزنس، والإيمان إلى تجارة، وعلاقتك برب الكون إلى "سبوبة" يحاول كل طرف تحقيق مصالحه من خلالها، والأمر هنا لا يقتصر على الإسلام فقط، لكن في كل الديانات، هناك دائما من يتاجر، ويستغل، ويسطو على عقول الناس وأموالهم، مستخدما قطط قمبيز، التي صارت الكارت الرابح دائما، كلما فكر أحدهم في خداعنا..

ومن عجائب الأمر، أن الأطراف المتصارعة، يحرص كل منها على حياة الآخر، دون أن يلجأ أي منهم إلى فكرة القضاء نهائيا على خصمه، فخطة الضربة القاضية غير واردة في هذا الصراع، لأن حياة كل طرف مرهونة ببقاء خصمه على قيد الحياة، الأنظمة تحرص على بقاء خصومها لتستخدمهم "فزاعة" للشعوب الخائفة المرتعشة، حتى تقبل بأن تقايض الحرية بالأمن، أما الخصوم فبقاء تلك الأنظمة هو سر نجاحهم، والضمان لأنهار الأموال التي تتدفق إليهم، والأهم أنهم دون وجود تلك الأنظمة سيفقدون أي مبرر لوجودهم، وسوف يكتشف الناس حقيقتهم..

المطمئن في الأمر، أن المصري الذي تخدعه صور القطط المقدسة، لا ينسى ثأره، وقد حدث هذا بالفعل في موقعة "الفارما" التي أشرت إليها، فبعد فرار الفراعنة إلى ممفيس "الجيزة حاليا"، أرسل قمبيز سفينة من جيشه عليها 200 من جنود الفرس، مهمتهم إقناع المصريين بالاستسلام، وفور وصول السفينة، قفز الفراعنة على سطحها، وقتلوا كل من عليها، وعاد بعضهم وهو يحمل أعضاء من أجساد جنود الفرس، وجن جنون قمبيز، فعاد بجيشه لينتقم، وقتل مقابل كل جندي عشرة مصريين..

لم تكتمل فرحة المصريين بالثأر، ومات 2000 منهم، ثمنا لحياة جنود الفرس الذين قتلوهم، هذا ليس وحده المؤلم في الأمر، لكن المؤسف بالفعل، أن الفراعنة من يومها وحتى الآن، تعرضوا لنفس الخدعة مئات المرات، وفي كل مرة يفرون خوفا من صور القطط المقدسة، التي كانت ستهرب من أمامهم، لو وجدوا الشجاعة، ليقولوا كلمة من حرفين هي (بِس)!
الجريدة الرسمية