رئيس التحرير
عصام كامل

ولكن النملة عاشت واندثر الديناصور


رغم أن الديناصورات يبلغ طولها في بعض الأنواع إلى نحو ٤٠ مترا ووزنها يصل إلى ٨٠ طنا، وأدمغتها كبيرة الحجم وعاشت على الأرض منذ ٢٣٠ مليون سنة، وتعددت أنواعها لنحو ألف نوع، إلا أنها اندثرت تماما وليس لها بقايا إلا في المتاحف، واختلف العلماء في أسباب الاندثار، فمن قال بسبب ارتفاع درجة حرارة الجو بعد انتهاء العصر الجليدي، أو بسبب قيام البشر باصطيادها، أو بسبب ارتطام كويكب كبير بالأرض أدت لاندثار تلك المخلوقات الكبيرة، وهناك من يقول إنه مات بالكساح..


ولكن السؤال لماذا اندثرت الديناصورات واستمرت بقية المخلوقات؟

وفِي كل الأحوال فإن التفسير المنطقي أن الإنسان وبقية الخلق استمروا لأنهم نجحوا في تطوير أنفسهم ليتلاءموا مع التغييرات بينما فشل الديناصور، بدليل أن مملكة النمل وهي الأصغر حجما عاشت واستمرت حتى الآن، تلك المخلوق التي يبلغ طولها من ٢ إليّ ٢٥ ملليمتر ولكن رأسها كبير قياسا مع حجمها، ولها فكان يمكنانها من حمل أشياء ثقيلة جدا بالنسبة لها تصل إلى نحو ٢٠ ضعف وزنها، وتستخدمهما في الحفر..

وأما دماغها فهو حكاية لأنه يحتوي على أجهزة إنذار للدفاع عن نفسها، وخلايا استشعار، وجهاز كالستلايت للاستقبال، وعدة خلايا للتفكير، وغالبا ما يعيش النمل في مستعمرات على أعماق نحو عشرة أمتار تحت التراب، والأهم إن النملة نجحت وبامتياز في تطوير قدراتها على التأقلم مع كل المتغيرات، وكانت مستعدة دوما للتكيف مع التغيرات البيئية، وهي من أرقي المجتمعات الاجتماعية من حيث التنظيم والتواصل والمثابرة والجدية والتخطيط..

ولها من المهارة في البناء ما يعجب له العقلاء، ولعل في قصة النمل مع سيدنا سليمان في القرآن الكريم ما يلخص الحكاية «حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ»، وهكذا يندثر ديناصور يزن عشرة أطنان وتعيش نملة لا تزن إلا جزءا من الجرام، بل تتكاثر وتظل باقية كل هذه الملايين من السنين.

ولأن الأمم والحضارات أيضا تنمو وتكبر وتصبح إمبراطوريات وممالك عندما تطور من نفسها وتتأقلم بتغير نفسها دوما والعكس صحيح عندما تفقد قدرتها على التأقلم، وتتجمد ولا تتطور وتعيش على الماضي، وهنا تشيخ وتمرض وتصبح عالة على من حولها وتنتظر رصاصة الرحمة من أي عابر سبيل..

وهناك دراسات عديدة لــ "أرنولد توينبي" ترصد صعود وهبوط واندثار حضارات وأمم عندما ارتدت عن قواعد النهضة وارتضت التعايش مع القهر والظلم والديكتاتورية، بمعنى أن كل دول المنطقة من اليمن الذي كان سعيدا لجزيرة العرب التي قدمت للبشرية الهداية وأخرجتهم من عبادة الأوثان لعبادة الواحد الأحد لحضارة بلاد الشام في بلاد الرافدين، وحضارة فارس والإمبراطورية العثمانية ثم تنقلب الأحوال في مشهد خروج جماعي من التاريخ والجغرافيا وارتداد عن الحضارة وأسبابها..

ثم كان أن دارت الدوائر وبالتحديد على بلاد الحضارات القديمة وهي ليست صدفة أن تكون الأوضاع هكذا في اليمن والعراق وسوريا وإيران، وإذا كان صحيحا إنها ظلت تتخبط بين أساطير الماضي وحقائق الزمن الراهن، ولكن الصحيح أيضا أن تلك الأمم انكسرت حينما تخلت عن العلم ثم الصناعة وعندما اتبعت ابن تيمية وحاربت إابن رشد، وعندما أغفلت العقل وآمنت بالنقل وعندما أسقطت الدولة المدنية لحساب الدولة الدينية.

وبالطبع لم تكن مصر بعيدة عن كل ذلك، ولكنها ظلت تتلقى الضربات المتتالية لكل تجاربها في النهضة منذ أيام "محمد على"، عندما تحالفت فرنسا وبريطانيا لتدمير مشروعة في التصنيع وأجبرته على قبول معاهدة "يالطا"، وعندما حاولت مصر إعادة إنتاج مشروع الاستقلال في الستينات تم ضرب التجربة بالحصار وبالعدوان الصهيوني..

ثم تكرر السيناريو نفسه عندما حاولت مصر بناء نموذج مستقل في نهاية القرن الماضي وكان الربيع العربي هو الضربة القاصمة لمصر والمنطقة، بمعني أنهم يريدون مصر كقطعة الإسفنج كبيرة الحجم خفيفة الوزن تطفو ولا تغرق، ومع هذا تحاول دوما لأن ما لا يقتلها يقويها، ويكفيها أنها تحاول الصمود والإصرار على ألا تكون تابعة أبدا وذلك بحكم التاريخ والجغرافيا وقداسة المكان الذي جعلها أقوي من الاندثار والزمان.
الجريدة الرسمية