رئيس التحرير
عصام كامل

لماذا نموت في دراما رمضان موتا؟


حب الناس للدراما راجع أساسًا إلى تأصل فكرة نزولهم على نحو درامي في ظهر آدم من السماء إلى الأرض، فيه من النكد والحزن أكثر مما فيه من الضحك، بل إن النزول من الجنة إلى الأرض بكل ما فيها من مآسٍ وقسوة وظلم عملية لا يمكن بحال أن تنطوي على أي كوميديا إلا إذا كانت سوداء.. والحق أننا نعيش كوميديا المأساة المطلقة منذ خلقنا حتى نعود إلى الله، خاضعين للحساب والجزاء، جنة أو جحيما!


هذا الولع الإنساني بصفة عامة، والشغف المصري بصفة خاصة، وراء البحث عن جذور الاهتمام المبالغ فيه بمتابعة أحداث تجري على الشاشات مسلسلات تتكلف الملايين تذهب لجيوب الزعيم عادل إمام ورائد أفلام البلطجة محمد رمضان وغيرهما وغيرهما، بينما مشاهدونها يتقاتلون على سعر تذكرة مترو!

ومما يلفت النظر ويكدر النفس أن هذه الكثافة الدرامية يحشدون لها حشدًا في شهر رمضان، لماذا شهر رمضان؟! هل من فروض الورع والتقوى وذكر الله متابعة أنشطة هيفاء وهبي والفخراني وظافر العابدين والتافه رامز والفراغ الأجوف على ربيع وثقيل الظل بيومي؟ ألا يجوز رمضان بغير المسلسلات؟ زمان، استبدت الفوازير بالمصريين من أيام المخرج الكبير محمد سالم وفوازير الأبيض وأسود لسمير وجورج والضيف أحمد..

ثم توجت نيللي مع فهمي عبد الحميد ملكة بلا منازع طيلة عشرين عاما تقريبا وكانت شوارع القاهرة تبدو مهجورة تماما لأن الناس يتسمرون أمام الفوازير، ومع فطوطة لسمير غانم بقي الهوس ذاته، ثم جاءت شريهان ومفرداتها وملابسها المبهرة، ولم تلبث أن انطفأت جذوة الفوازير.

من بعدها سقط المصريون أسرى مسلسلات متنوعة، تناولت صراعات المال والحب والسلطة والغواية، على خلفيات سياسية، كان نجومها أسامة أنور عكاشة وجلال عبد القوى وصفاء عامر وغيرهم، ثم نكبنا اليوم بالعنف والمخدرات وعصابات لم نعرفهم إلا في مسلسلات أمريكا!

الكتابة في الورش الدرامية وتعدد المؤلفين ليس جديدا في مسلسلات "نيتفلكس"، وأنت لن تشعر أبدا أن هناك عشرة كتاب للموسم الواحد، لأن النفس والرؤية واحدة، وتاريخ طويل وراءهم في هذه الطريقة من طرق التوليف الجماعي، ولا أقول التأليف.. في مسلسل عادل إمام عوالم خفية، المؤلفون الثلاثة في نزاع داخلي ظهر على النص رغم براعة رامي إمام في الإخراج، ويبدو عادل نفسه عليلا معتلا مجهدا عجوزا، كما لو كان في آخر زاده وزيته الفني!

تبدو الصورة على الشاشة في الدراما المصرية هوليودية أكثر منها مصرية، فهي سريعة جدا دامية جدا بالغة العنف جدا، والشخوص أنفسهم ينطقون العربية بلهجة مصرية بينما أفعالهم أمريكية.. التطور التقني في الإخراج ليس يكفي لتحقيق التأثير الفني المطلوب، هو يحقق إبهارا، سرعان ما يختفي، وتتوه الرسائل التي يحملها المضمون الدرامي وسط زحام السيارات التي تنفجر والدخان الأزرق، وشم البودرة والنسوان العرايا، ونساء السيليكون.. وخيرا أنها تتوه لأنها رسائل تخريب للضمير والذات المصرية.

الدراما الرزينة الواقعية الهادئة الحقيقية قدمها خيري بشارة في الطوفان، حيث ربط الناس بالشاشة لأكثر من شهر ونصف خارج الموسم الرمضاني، وهو يحاول الآن في لعنة كارما غير أن هيفاء وهبي لا يزدردها الناس بسهولة، لغلبة السليكون على أدائها.

من نعمة ربنا علينا هذا العام في رمضان أن إنتاج الدراما هبط تقريبا إلى النصف، وهناك منتجون كثيرون حجزوا الموسم التالي لرمضان بعد زوال أثر التخمة الدرامية والمشاهدة المهلهلة بسبب سيول الإعلانات.

وعلى فكرة فإن يوتيوب صار البديل المضمون للمشاهدة، وسيأتي وقت يهجر فيه الناس شاشات إعلانية بحتة.

مرة أخرى لماذا نحن مولعون بالدراما؟
كل البشر مولعون بالدراما، لكن الولع عندنا ولعة شويتين، وبالذات في رمضان، ربما لأن حياتنا مملة وعمرنا طويل ولا بد من إفنائه في سلسلة مصائب وكوارث وسحل وقتل ودماء، نراها تحدث لغيرنا ونمصمص الشفاه ونحمد ربنا أننا لم نكن الحقيقيين!

غيرنا يتعذب وهما بديلا عن عذابنا الحقيقي.. ما يجري إذن هو تخدير بالفن.
الجريدة الرسمية