رئيس التحرير
عصام كامل

رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا


لا أعرف من أين أبدأ، وأي كلام أكتب في مقام سبب وجودي في الحياة أبي وأمي، والحمد لله الذي أطال لي في عمر أمي العظيمة، حتى أظل متمتعا بكرم الله سبحانه وتعالي من أجلها، متعها الله بالصحة والعافية ورضا الله، ولكن أبي الحبيب قد رحل إلى عالم البقاء منذ ست سنوات، أتذكره في كل ليلة منذ وفاته وإليّ الآن بالدعاء في كل صلاة، وأبكي بداخلي كثيرا، وأنا اجتهد ما استطعت يوميا في تربية أبنائي تارة باللين وتارة بالشدة خوفا عليهم ورعبا من مؤثرات وشر الحياة حولهم في كل شيء، دون أن يشغل بالي أي شيء آخر، متذكرًا دائما شدة ولين أبي معي وما أكثر ما كَانت شدته، وما يبكيني أني لم أكن مقدرا لدوافع أبي في شدته، وقت أن كنت صغيرا، وهو نفس رد فعل أبنائي الآن ولكن موديل ٢٠١٨!


لم أكن منتبها لأسباب شدة والدي رحمه الله وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإصراره على رأيه في كثير من الأحيان، فلم يكن سياسيا أو دبلوماسيا، ولَم أقتنع بأي مبررات لهذه الشدة وهذا الإصرار في وقتها، والتي استمرت حتى بعد أن أصبحت مسئولا عن نفسي، وحتى انتقل والدي الحبيب إلى رحمة الله تعالي، رغم أننى كنت أبلغ من العمر ٣٧ عاما، ومتزوج وأعول ومسئول كبير وحاصل على الدكتوراه وأعمل بالتدريس بالجامعة..

كان أبي مهتما ومتواجدا في كل شيء أفعله، حتى في لون وماركة السيارة التي أريد أن أشتريها، وفي كثير من الأحيان لم أكن ملبيا لكل ما ينصحني به، دون أن يكون ذلك مانعا لاهتمامه الشديد وإصراره في توجيهى ونصحى، ولكن فضل الله عليا كان كبيرا، فقد تأثرت بشخصية والدي كثيرا في حياتي دون أن أدري، بل أصبحت نسخة أصلية منه في الكثير من سماته، وخصوصا ما كان يزعجني منها، وأدعي أنني إذا كنت قد حققت نجاحا في محطات حياتي المختلفة، فيقيني أن الفضل لله والسبب هو والدي رحمه الله وجعل قبره روضة من رياض الجنة..

والألم أني لم أنتبه لذلك في حياة والدي، ولم يسمع مني هذا الاعتراف في حياته، رغم أني كنت أحبه حبا شديدا كان يعلمه يقينا، وكنت دائم المرح والدعابة معه، وكان راضيا عني ودائم الدعاء لي، وأكرمني الله أن تكون آخر شربة ماء له في هذه الدنيا من يدي، وآخر كلمات ينطق بها قبل الشهادة هي دعاؤه لي، غسلته بيدي وصليت عليه إماما لمشييعه، ونزلت به إلى قبره مؤمنا بقضاء الله وقدره، وأصبحت مفتقدا طعم كل شيء في الحياة بعده، فقد كان أبي هو كل الحياة دون مبالغة!

واليوم وأنا اتذكر أبي الحبيب مع ردود أفعال أبنائي المزعجة لي، أدعوهم وأدعو كل الأبناء والإخوة الأحباء، ألا ينتظروا هذا الْيَوْمَ، الذي يتمني فيه كل منهم أن يرجع والده أو والدته، ليقولوا ويفعلوا ما كانوا يريدونه وهم أحياء، وليعلموا أن كل مخلوقات الأرض لو اجتمعت على حب أحدكم، لم ولن تحبكم كما يحبكم آباؤكم وأمهاتكم..

فهم فقط من يتمنون أن نكون أفضل الناس، وهم فقط من يعطون دون مقابل، وهم فقط من يقسون حبا، وهم فقط من يضحون لأجلنا، وهم فقط من قال فيهم رب العرش العظيم: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا"  صدق الله العظيم 
الجريدة الرسمية