رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

طفولتنا البائسة.. عبدالوهاب نموذجا


كانت الأم تنظر إلى طفلها المريض بلهفة، تتحسس وجهه الشاحب، وتنتظر أي همسة من فمه المغلق، أو نظرة من عينيه النائمتين، الطبيب يكشف على الطفل ثم يطلب الاختلاء بوالده، يهمس في أذنه بأن الطفل سوف يتوفي خلال ساعات، وينصحه بأن يستخرج لنجله شهادة الوفاة، لأن الغد هو يوم الجمعة، إجازة الحكومة، ويخرج الأب بالفعل، ليعود وبيده ورقة يخفيها عن زوجته، كانت الورقة هي شهادة وفاة الطفل محمد عبدالوهاب، أحد أهم مجددي الموسيقي العربية فيما بعد!


عاش عبدالوهاب – الذي حلت ذكري وفاته هذا الشهر– 89 عاما على أقل تقدير، وذلك لأن تاريخ ميلاده لم يتحدد على وجه الدقة، فهو كان يصرح في حواراته بأنه مولود في 1910، لكن شهادات معتبرة تقول إنه من مواليد 1902، وهناك رأي ثالث يؤكد أن عام مولده هو 1898..

يروي الكاتب الصحفي "محمود عوض" في كتابه "محمد عبدالوهاب الذي لا يعرفه أحد"، كيف قضى "عبدالوهاب" سنوات طفولته في صراع دائم مع أسرته التي ألحقته بالكتاب ليحفظ القرآن، حيث كان والده شيخا لمسجد في باب الشعرية، ولأن الطفل يهوي الفن كان يهرب من الكتاب، فيضربه والده، وحتى يفلت من العقاب، بدأ يستأذن الشيخ "عبدالعزيز عاشور" شيخ الكتاب، ويؤلف في كل مرة سببا أو مبررا لغيابه، مرة وفاة عمته، ومرة خاله، ومرة خالته..

حتى أخبر الشيخ أباه فكان عقابه هذه المرة مزدوجا، من الشيخ، ومن الأب، ووصل الرعب بالصبي أنه كان يلعب مع الأطفال في الشارع، ورأي الشيخ عاشور قادما في اتجاهه، فجري فزعا، حتى اصطدم بعربة حنطور قادمة من الاتجاه العكسي، وتسبب عمود العربة المدبب في جرح، ظل أثره باقيا في الجانب الأيمن من رأسه حتى وفاته..

رغم كل ذلك ظل الطفل يتسلل إلى جلسات الذكر في المسجد، ليردد الأناشيد الدينية مع المنشدين، ثم انتقل إلى تقليد أغاني الشيخ سلامة حجازي، أشهر مطربي ذلك العصر، وقتها وجد عبدالوهاب لأول مرة من يصفق له، أطفال الحارة الذين كان يغني لهم، حتى سمع به فتوة الحارة، وكان يدعي "أحمد نبلة"، فناداه ذات يوم، وعندما وقف عبد الوهاب أمامه مرتبكا قال له: 

غني ياد
ولم يرد عبدالوهاب، فكرر الفتوة أمره:
بقولك غني ياد

لكن الطفل المسكين لم يغن، وحاول الانسحاب، فجذبه الفتوة من ملابسه، وتناول جردل مياه بجانبه وسكبه عليه، عقابا له على عصيان أوامره، وجري الطفل باكيا إلى بيته، لينتقم القدر بعد ذلك من الفتوة "نبلة"، عندما هاجم غرفة يسكنها طالب من الأرياف بغرض السرقة، لكن الطالب أمسك به، ولأنه أقوي منه بدنيا ظل يضربه حتى سمع الناس استغاثات الفتوة!

يحكي "عبدالوهاب" أنه سمع الناس في الشارع ذات يوم يجرون خلف عربة حنطور، ويشيرون إلى الراكب بداخلها، وهو المطرب "صالح عبد الحي"، وجري الصبي "محمد عبدالوهاب" معهم حتى تمكن من القفز على العربة وهو ينادي المطرب الشهير قائلا:

اديني إيدك أبوسها يا أستاذ..
لكن الأستاذ لم يستجب لتوسلاته، وقال مخاطبا السائق:
- كرباج ورا يا أسطي

فنزل الكرباج على جسد "عبدالوهاب"، الذي سقط على الأرض، وعاد إلى بيته والدماء تسيل من وجهه، ليواصل رغم ذلك محاولاته لدخول عالم الفن، فينجح في الالتحاق بمسرح "الكلوب المصري"، وحتى لا تعرف أسرته بعمله هناك، كان يغني باسم مستعار، فأعلن المسرح لرواده، عن فقرة غنائية يقدمها الطفل المعجزة "محمد البغدادي" !

ولم يستمر الأمر طويلا، فقد علمت الأسرة بفعلته، وتوجه الشيخ "حسن" شقيق "عبدالوهاب" إلى المسرح، جذب "عبدالوهاب" وربطه بحبل، وظل يجره خلفه من مقر المسرح في الحسين، وحتى منزل الأسرة في باب الشعرية..

أنا هنا لا أكتب عن "عبد الوهاب" في ذكري رحيله، لكنني فقط توقفت أمام طفولته البائسة، مبهورا بعزيمته، وقدرته على التحدي، ومواجهة كل الأطراف التي تحالفت جميعها، لمنعه من الغناء، قرأت سيرة الرجل ووجدتني أمام سؤال لا علاقة له بموسيقار الأجيال وذكراه:

كم طفلا في مجتمعاتنا العربية تم وأد موهبته؟ كم أديبا أو فنانا، أو عالما، أو شاعرا، سقط في بداية الرحلة أو في منتصفها، ولم يكمل الطريق؟، هل تتخيلون كم نابغة نجح المجتمع في تغيير مساره، كم شاعرا مبدعا حولته أسرته إلى طبيب فاشل؟ كم ممثل أو مطرب أو مخترع أو أديب اضطر أن يصبح مهندسا أو ضابط شرطة، أو قاضيا، إرضاء لمجتمع يحدد فئات معينة دون غيرها ليمنحها احترامه وتقديره ؟

لقد نجح "محمد عبدالوهاب" في تحقيق حلمه، رغم أنف المجتمع والأسرة والشيخ عاشور شيخ الكتاب، لكن بالتأكيد هناك آلاف غيره آثروا السلامة، أو خانتهم إرادتهم، أو فقدوا الثقة في أحلامهم..

ابحث في حياتك عمن استخرج شهادة وفاتك، وأنت على قيد الحياة، عمن حاول أن يقتل حلمك، ويستخف بموهبتك، فتش في مسيرتك عن "أحمد نبلة" الذي سخر منك، وسكب جردل المياه عليك، ليذلك وينتهك كرامتك، راجع ذاكرتك لتحصي الأساتذة الذين طلبت – عن طيب خاطر – أن تقبل أيديهم، احتراما لهم، وشغفا بمسيرتهم، ثم تحسس ظهرك لتحدد موضع ضربة الكرباج التي تلقيتها منهم، لو وجدت في حياتك أمثال هؤلاء فتأكد من حقيقتين:
الأولى: أن محمد عبدالوهاب رحمة الله عليه كان بطلا..
والثانية: أننا مجتمعات تقتل أبناءها، منذ تاريخ مولد عبدالوهاب الذي لم يٌعرف على وجه الدقة.. وحتى الآن!
Advertisements
الجريدة الرسمية