رئيس التحرير
عصام كامل

شيء من التطرف


في تاريخ البشرية هناك ألوان من التعصب، فقد عرفنا من التاريخ ومن خلال الأدب والشعر التعصب القبلي، وسرد لنا التاريخ أيضًا ألوانًا من التعصب الديني والطائفي، بل إذا نظرنا إلى التاريخ الحديث والمعاصر نجده يقدم لنا أنواعًا مختلفة ومتعددة من التعصب العنصري أو العرقي، وأعطى تعريفًا للتعصب بأنه "انتماء زائد إلى جماعة ينتمي إليها الإنسان ويرتبط بها ويعتنق أفكارها الخاصة إلى درجة تصل إلى استبعاد الآخر المختلف وإقصائه وكراهيته".


والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يمكن أن تُعالج هذه الظاهرة، وكيف تعالج، وما الآليات لتحقيق ذلك؟

وفى الحقيقة بصفتي باحثة في العلوم التي تخص الإنسان والمجتمع سنوات وسنوات، بل أتقابل بصورة واقعية وعلى الأرض مع شرائح مختلفة وفي محافظات مختلفة تتباين الثقافات المحلية وتختلف أيضًا التقاليد المحلية من الإسكندرية حتى أسوان، أرى أنه يمكن أن تُعالج ظاهرة التعصب بمناهج وأساليب متعددة، وننطلق من زاوية مختلفة مع كل ثقافة بعيدًا عن الصرخات الحنجورية التي تتخذ من مشكلة التعصب «سبوبة» وأكل عيش، بل إن أصحاب هذه الصرخات والدعوات يأخذون منها مكانة سياسية للّعب بورقة التفتيت الطائفي في الخارج والداخل بحجة الوطنية وهم في الحقيقة يُقسمون الوطن.

وبعيدا عن أن أستفيض في وصف هؤلاء وبعيدًا عن أن استغرق وقتًا ولو بقليل لوصف المرتزقة أرى إنه من الأفضل أن أتطرق إلى الأساليب العلمية والواقعية لمحاولة معالجة مشكلة التعصب، ففي مقدور علم النفس، والعلوم الفلسفية، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والعلوم الإنسانية، في مقدور هذه العلوم ومخزونها ومناهجها أن تلقي أضواءً كاشفة على ظاهرة التعصب، وأن تساعد الإنسان بصورة جدية وواقعية بأن تكشف له آثار الجهل والتخلف وتزيلها من أمام عينيه وعقله، هذه الظاهرة التي أعمت عين البشرية بل أعمت عين العقل وبصيرته عقودًا كثيرة.

وأركز هنا على العلوم الفلسفية التي من شأنها أن تُعالج من خِلال إعمال العقل، ومن خلال مناهج الفلسفة بكل أنواعها، ومن خلال المصطلحات والمفاهيم، وفي الحقيقة التعصب بنظرة فلسفية له بُعدان الأول هو اعتقاد الإنسان بأن الفئة التي ينتمي إليها سواء كانت قبيلة، أو مذهب، أو دين، أو اتجاه داخل الطائفة الواحدة أسمى وأرقى من بقية الفئات، والبعد الآخر هو اعتقاده بأن الفئات الأخرى أحط من تلك الفئة التي ينتمي إليها وبديهي أن البعدين متلازمان.

والتاريخ يحكي لنا ذلك من كبوات ومواقف وأحداث، وفى المجمل صفة الكراهية هي الصفة الناتجة والغالبة من جراء هذا التعصب، كراهية الآخرين، وهذه الكراهية ترتكز على وجود الشر الذي تنتج عنه الأفعال المُخربة والإرهاب الفكري ويعتقد المتعصب أن ما يفعله هو الخير الأمثل، ومن ثم يجب أن نربط بين العلم والمناهج والعلوم التي سبق أن ذكرتها في الكشف للمتعصب ذاته عن مرضه وقصور فكره، فالإشكالية وحل مشكلة التعصب لا تكون بالطرق الأمنية فقط بل تجب مساندة هذه الطرق لحل الأزمة، فالأزمة المُعقدة ليس لها طريق واحد للحل بل طرق مختلفة ومتكاملة في آن واحد.

وفي الحقيقة عند تحليل الهيكل البنائي للتعصب يقال إن التعصب ينشأ عند الأغلبية ضد الأقلية، وتدافع الأقلية عن نفسها، وهذا النمط ينطبق على الأغلبية الساحقة من حالات التعصب التي عرفها تاريخ البشرية على مستوى العالم، ولكن هناك حالات تُخالف هذا النمط العام وهو تعصب أقلية بفكر إرهابي مُتطرف له أبعاد سياسية، ونجد هذا النموذج في كيانات وبعض المؤسسات.

وفى الحقيقة هذه الأقلية المتعصبة يجب أن نضعها تحت منظار العلوم النفسية، والاجتماعية، والفلسفية لحل المشكلة لمساندة الحلول الأمنية والقانون.

فحل ظاهرة، أي ظاهرة يجب أن يكون من السبب الأول أو بلغة الفلسفة العلة الأولى ووضع حلول لها تعالج الإنسان الذي يعتنق التعصب، أود أن أشير هنا وبصورة مؤكدة إلى ربط العلم بالمشكلات النفسية والمجتمعية للوصول إلى الحل والوصول إلى الاتساق المجتمعي، ويدخل ملف التعليم باعتباره طريقًا أساسيًّا من الطرق المعالجة للأزمة لإزالة الفكر المتطرف في ذهن المتعصب تجاه مجتمعه وتجاه الآخر المختلف معه، وقد تطرقت إلى هذا الأمر باستفاضة عن أهمية إزالة كل عبارة تنتج منهجًا متطرفًا، أو اتجاهًا به بذور للتعصب.

وأقول في نهاية كلمات هذا المقال أن القضاء على التعصب يمثل كفاحًا، ولكن هذا الكفاح لا يمكن أن يكون كفاحًا إصلاحيًّا عن طريق الوعظ الأخلاقي، بل هو في أساسه كفاح أيدلوجي، وسياسي، واجتماعي، وثقافي، بل هو عمل مهم جدًّا للوطن وعمل يجب أن نضعه أمام أعيننا لمساندة وطن ولمعالجة ظاهرة يستخدمها أطراف داخلية على المستوى المحلي، وأطراف دولية وإقليمية أخرى لتفتيت المجتمع في شكل ظاهرة الدفاع عن الحق وعن الإيمان السليم.

وقبل مواجهة التطرف فالأنفع هو مواجهة التعصب الذي يتطلب بالأساس مواجهة فكرية للأفكار المتطرفة، وبالإصلاح الديني والتعليمي والقيمي وبتفعيل دولة القانون تكريسًا لمبدأ المواطنة، بالإضافة إلى ذلك يجب التوقف عند الأبعاد الإقليمية والدولية لظاهرة التطرف التي تجعله أداة للتوظيف الداخلي واستخدام شباب مصر الذين زُرِع فيهم منذ الصغر مفهوم التعصب سواء عن طريق التعليم أيًّا كان نوعه، أو عن طريق الثقافة السلبية، العلم بآلياته موجود والظاهرة بالفعل كائنة؛ ولذا يجب البدء في العمل.

وختاما فإنني أضع مقالي هذا باعتباره رسالة إلى من يهمه الأمر.
الجريدة الرسمية