رئيس التحرير
عصام كامل

الشراقوة عزموا القطر تاني.. «كتيبة» أبو شامة تروي ظمأ المسافرين في «أبو حماد»

فيتو

كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة وخمس وثلاثين دقيقة، حينما مر القطار رقم 594 القادم من محافظة السويس متجهًا إلى مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، وبينما كان "أشرف الهادي" متكئًا برأسه إلى نافذة القطار بعد استراحة تقارب العشر دقائق في محطة مركز "أبو حماد" الذي يبعد عن الزقازيق مدة 15 دقيقة، الرطوبة وحرارة الجو يعصفان بأركان القطار، أحدهم يكسر الصمت مستاءً "ياه شكلنا هنوصل بعد المغرب ومش هنلاقي شويه مياه يبلوا ريقنا".


شباب وصبية في أعمار مختلفة يصطفون أمام نوافذ القطار، يشيرون إلى الركاب بالانتظار، في حين توجه البعض إلى كابينة السائق يأمره بالتوقف قليلاً، أول ما خطر في بال أشرف الذي اعتاد المرور بشكل دوري على المحطة ذاتها لطبيعة عمله، أن ثمة هجومًا إرهابيًّا سيقع في تلك اللحظة لا محالة، " دخلوا القطار حتى ظننت بالفعل أنهم إرهابيون لأن بعضهم كان ملتحيًا ومعهم حقائب، وقال أحدهم فرغوا اللي معاكم وانزلوا بسرعة"، يتحدث أشرف.



عم الصخب والضجيج أرجاء العربة لدقائق، لم يتبين الركاب ماذا حل بهم ومن هؤلاء النفر الذين يصرون على إيقاف القطار مهما كلفهم الأمر، حتى حانت اللحظة الحاسمة، وشرع أحدهم في فتح إحدى الحقائب الكبيرة، أخرج منها أكياسًا بلاستيكية معبأة بحبات التمر المجفف والعصائر الباردة، بينما سارع البعض في وضع وجبات الأرز بالدجاج أمام بعض الركاب، "ادونا لحمة وباتيه ومياه شرب"، لوهلة تسمر أيمن والحضور، باغتهم الموقف فظنوا أنه كمين، كفة الهجوم الإرهابي ما زالت هي الراجحة والمسيطرة على المشهد، "مال عليّ أحدهم وقالي اتفضل وجبتك ورمضان كريم".


تسارع الأطفال ممسكين بعبوات الأغذية وزجاجات المياه، يتشبثون بحافة النوافذ الزجاجية، مفرغين ما في أيديهم في أحجار الجلوس، القطار رقم 594 هو الأوفر حظًّا، الجميع يهلل ويتبادل التحيات وعبارات الثناء والشكر، وامتداح الخصال الحميدة التي تفرد بها أبناء محافظة الشرقية دون غيرها، "الناس كلها قعدت تقول هما دول الشراقوة بجدعنتهم وكرمهم المعروف من سنين"، وبات المسنون يسكبون زجاجات المياه الباردة فوق رؤوسهم، بينما ظل أشرف ماكثًا في موضعه يروي ظمأه بالمشروب البارد، فأنصت إلى حديث جانبي دار في مقدمة العربة بين أحد الموزعين وراكب يجلس بجوار زوجته، "قاله اتفضل فطارك رد عليه الراكب قاله أنا مسيحي وأظهر له الصليب، فرد عليه الموزع قائلاً له والله لو بتعبد البقر هتاخد أكل برضو ماليش دعوة خد الله يكرمك"، ما زالت تفاصيل المشهد الحافل بالمشاعر المختلطة بين الفرحة والصدمة عالقًا في ذهن أشرف حتى هذه اللحظة، "وكان مشهدًا عظيمًا شاهده ركاب العربة معي وكان إحساس لا يوصف ولا تعبر عنه كلمات".


بعد أن أنهى الركاب طعامهم وأقيمت صلاة المغرب، تساءل البعض عن نصيب القطار المجاور من وجبة الإفطار، فيجيب أحدهم : "إحنا عددنا كبير جدًّا وموزعين نفسنا وهناك فريق آخر موجود داخل قطار الإسماعيلية"، لم يتركوا باب عربة في القطار إلا وطرقوه، أفطروا الجائع وأذهبوا ظمأ من جفت حلوقهم بفعل الموجة الحارة التي تضرب البلاد منذ صباح الخميس الماضي.


هذا العمل التطوعي الذي يقدمه أبناء مركز أبو حماد بمحافظة الشرقية، لم يولد بفعل الصدفة أو العشوائية، أو مجازفة من بعض الشباب والصغار، لكنه ثمرة "نذر" يعود لعام 2000، حينما قرر أبو شامة مصطفى" 52 عاما" بإحدى شركات المقاولات وأحد أبناء المركز، أن يعكف على إفطار كل مسافر يمر بمركز أبو حماد، أصبح ينسق عملية التوزيع ويفرق الأطفال والشباب إلى جماعات، لكل فريق مهامه الخاصة، بينما يقف هو في مقدمة المحطة يراقب المشهد من بعيد.


ويعود الأمر لأكثر من 18 عاما، حينما كان أبو شامة عائدًا من القاهرة في قطار الزقازيق بعد أن ذهب لدفع تذاكر عمرة شهر رمضان المبارك، ليجدها ترتفع عن السعر الذي اعتاده كل عام "كنت بطلعها كل سنة بـ500 جوي وبحري 300، لقيتها غليت قلت هرجع البلد ومش رايح"، في تلك اللحظة كانت الأيام الأولى من الشهر الفضيل تشارف على الانتهاء، وفرصة الذهاب إلى العمرة بدأت تتلاشى رويدًا، خيم الحزن على أبو شامة، وأسند رأسه إلى أحد أعمدة القطار، ليسمع أحدهم يقول في تعب ولهفة "مفيش شوية مياه نبل ريقنا يا عالم المغرب داخلة علينا خلاص"، "قلت وقتها نذر عليّ لأسقي وأطعم كل صائم يعدي من المحطة دي ما حييت"، يتحدث أبو شامة مصطفى.


أصبح النذر بمضي الوقت عادة متأصلة وراسخة بل استشرت في أرجاء المركز كله، فأصبح المعارف والأصدقاء يتهافتون على فعل الخيرات، "الحكاية بدأت بي وباثنين أصحابي، كنا نطلع القطارات ومعانا تمر ومياه وبسكويت نوزعهم على الصائمين، حتى الأقباط لازم كانوا ياكلوا ويشربوا"، تضاعف العدد من ثلاثة رجال إلى عشرة، ثم أكثر من أربعين شاب وصبي تتراوح أعمارهم من 12 حتى 25 عامًا، "ولميت عدد من أطفال المركز اللي له معايا لحد النهاردة شباب في جامعات وموظفين، وكل يوم خلال الـ30 يوم أنزل أنا واتنين أصحابي نشرف على توزيع الحاجة على الركاب في العشر دقايق اللي بيقف فيهم القطر في محطة أبو حماد، لأنهم صغار وبيحدفوا الأكل والشرب من شباك القطر".



أصبح منزل الحاج أبو شامة قبلة فاعلي الخير والراغبين في الحفاظ على عادة إفطار الصائم، فكل رجل أو سيدة أراد أن يخرج زكاة إطعام الصائم، يتجه إلى أبو شامة، حيث يجتمع أكثر من ثلاثين طفل في حجرة صغيرة ملحقة بالمنزل، عاكفين جميعهم على إحضار الوجبات والمياه ووضعها في الأكياس البلاستيكية، بينما يباشر الكبار سير عملية التعبئة.
الجريدة الرسمية