رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

نمط الهري اليومي لدى الرأي العام المصري


مع ظهور وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، من فيس بوك لتويتر لإنستجرام، ظهر أنه من الممكن لأي باحث في مجال الإعلام وقياس اتجاهات الرأي العام أن يتعرف بشكل نمطي على الطريقة التي يتحول بها اهتمام الناس من قضية ما، اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو رياضية أو صحية، أو أخلاقية، فيتنقلون بينها لفترات زمنية محدودة، وربما مع التواتر يمكن القول إن كل قضية صارت لها مدة حياة وموت!


بالطبع كانت أنماط الاهتمام وانتقالات الاهتمام وتحولاته موجودة، في عناوين وموضوعات الصحافة الورقية، يومية أو أسبوعية، كما كانت موجودة في جهات مهمتها قياس مدى رضا الناس وقبولهم لسياسات معينة أو برامج إعلامية محددة. الطفرات التكنولوجية التي جعلت الإعلام لحظيا، عكست سرعتها الهائلة على أمرين محددين: أولهما قصر عمر الخبر، وقصر عمر الاهتمام به، لأن ماكينة ضخ الأخبار لا تهمد، ولا تتوقف، وتهضم في الدقيقة الواحدة مئات الألوف بل ملايين الأخبار، عبر المواقع الإخبارية الجادة وغير الجادة، وعبر صفحات فيس بوك وسطور التغريد الخاطف على تويتر.

بطبيعة الحال فإن كل قضية تبدأ بخبر، ومع الخبر أو بعده تنفجر الآراء، المؤيدة أو المضادة، أو المحايدة، وحين يغلب الرفض العام يتسع نهر الهري حول القضية، ويطول عمر الخبر الذي صار موضوعا على كل لسان. ومن عجب أن مواقع الثرثرة السالفة هي الآن آبار ضخ متتالية للهري اللحظي اليومي المتجدد.

وبدلا من أن تتأني القنوات الإعلامية الرصينة والصحف الورقية التقليدية ذات التاريخ العريق فتعالج ما هو خبر وتتحقق منه أولا، وتتوسع فيه، فإنها باتت كالمقطورة تجرجرها صفحات الأكاذيب والكيدية والفضائح الإلكترونية.

من ناحية أخرى يمكن القول ببساطة إن عُمْر أي موضوع ينفجر على الفضاء الإلكتروني ومنه إلى البيوت والمقاهي وبرامج التوكتوك شو لا يزيد على ٤٨ ساعة أو٧٢ ساعة على الأكثر. ولنأخذ مثلا الموضوعات الرئيسية التي انهمك فيها الرأي العام المصري انهماكا مذهلا خلال أسبوع. معركة تطوير التعليم والهجوم المتصل على الوزير طارق شوقي. تذكرة المترو تجديد الخط الأول. هجوم حاد على هشام بركات وزير النقل.

معاشات الوزراء. علاوات أصحاب المعاشات. انتصارات مباغتة للزمالك، خروج الأهلي من الكأس، هزيمة الأهلي من فريق كمبالا سيتي المتواضع. حصول الزمالك على الكأس. المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة. أجر عادل إمام ٦٠ مليونا ومحمد رمضان ٤٥ مليونا. إجابات الرئيس على أسئلة الناس في "اسال الرئيس".

هذا قليل مما تبقي بالذاكرة، لكنها معالم رئيسية لما جري من نقاش أقرب إلى الصراخ، وأدنى إلى السباب، وأبعد ما يكون عن التناول العلمي الموضوعي. لكن لا يجوز أن تتوقع من سكان غرزة ولو بحجم الفضاء الإلكتروني أن يكونوا في كامل قواهم العلمية أو العقلية، وقد أدمنوا الشعور المخدر بأنهم بلا قيد ولا رابط، ولا حسيب، ويحق لكل واحد أن يفتي بغير علم، وأن يشتم بغير حق، وأن يكذب بغير ضمير.

من ناحية ثالثة، لابد أن هذا الوضع مثالي جدا، لكل من يعمل في وظيفة عامة، سياسيا كان أو مسئولا في أي قطاع مالي أو خدمي أو اقتصادي، لأنه بالمتابعة أصبح يعرف العمر الزمنى لأي خبر أو فضيحة أو قضية هو بطلها. ومادام عرف أنها تولد وتموت في غضون ساعات، فليس عليه سوي الصمت حتى يواريها التراب مع من أطلقوها!

أحسب أن سياسيين وغيرهم كثيرين باتوا على دراية مؤكدة بنمط الانشغال العام بقضية ما وأجله الزمنى. وهذا يريحهم ويعطيهم فسحة من الوقت للمعالجة أو لتكبير الدماغ!

تكبير الدماغ يمكن أن يقود إلى مصيبة، لو استمر إهمال الإشارات الساخنة المتدفقة من هري يتم تغذيته من جهات قصدت التحريض والتهييج في المقام الأول.

والمعروف في دراسات الرأي العام أن الجمهور في سلوكه الجماعي الغاضب عادة ما يفقد عقله، ويكون قابلا للاستهواء، بل تراه يتمتع بكثير من خصائص النساء في النزوع والاندفاع بلا روية تجاه موقف حساس زائف بفعل الشائعات وخلط الحقائق بالأكاذيب. السياسي الذي يعتمد على نماذج مدد الهري المحددة ويضع حساباته وفقا لها، لن يفيده التعالي على الموقف، إذا استمرت رسائل التسخين والتسخيط، لأنها ستنتقل من الوهم الإلكتروني إلى قطعان وجحافل بشرية غاضبة على الأرض!

حدث ذلك من قبل.. وشيء من هذا كثير يحدث الآن، ألا هل بلغت اللهم فأشهد.
Advertisements
الجريدة الرسمية