رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

قلادة النيل في عصر «الرئيس المؤقت».. تكريم آخر العمر

عدلي منصور
عدلي منصور

على امتداد عقود وعقود، كان خالد محيي الدين، الصاغ الأحمر كما كان يلقبه عبد الناصر، مخلصًا لمصر التي كان يحلم دومًا أن يراها بلدًا ديمقراطيًّا، تراعي الفقراء وترفع شعار العدالة، كان هذا حلمه منذ مشاركته في الاجتماع الأول للضباط الأحرار الذي عقد في النصف الثاني من عام 1949 ببيت جمال عبد الناصر، وحتى وفاته منذ أيام.


كانت مصر وشعبها هي دومًا اختيار خالد محيي الدين الأول في كل الاختبارات، ولكنه في المقابل، وعلى الرغم من سعيه الدائم بسبل شتى لخدمة مصر، إلا أنه لم يرَ في وهج عطائه تكريمًا أو تقديرًا، فأفكاره التي يؤمن بها، وقناعاته التي كان يرغب في تحويلها إلى حقيقة، كانت تتصادم مع الأنظمة السياسية المتعاقبة في مصر، مما جعله دومًا في خانة المستبعدين، وباعد هذا بينه وبين التكريم والتقدير.

عهد ناصر
بدأت قصة محيي الدين مع خانة الاستبعاد في أعقاب نجاح ثورة 23 يوليو، التي كان الصاغ الأحمر من أوائل المنضمين للتنظيم القائم عليها، الذي قطع الطريق أمام استكمال الملكية لمسيرتها في مصر، وتحولت البلاد بفعل ثورته إلى جمهورية، فقد كان محيي الدين عادة ما يصطدم بآرائه وأفكاره مع رفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، للاختلاف والتباين بين رأيه ورأي جميع زملائه، كما أقر هو في نص استقالته من المجلس.

وكان رافضًا لكثير من الآراء والأفكار منها تعديل قانون العمل الفردي الخاص بالفصل التعسفي، وحل الأحزاب السياسية، فقد كان يرى أنه وسط هذا الصدام والاختلاف لن يتمكن من تنفيذ خدماته للبلاد وللشعب المصري العزيز عليه، ولكن الفجوة بينه وبين الرفاق اتسعت إلى أقصى مدى لها، حينما طالبهم عام 1954 بالعودة إلى الثكنات وترك الحكم، وهو المطلب الذي كان طريقًا مسدودًا بينه وبينهم، مما دفع مجلس قيادة الثورة لقبول استقالته.

أما هو فلم يشعر بذرة ندم وهو يخلع عنه ثياب السلطة السيادة ويُصبح إنسانًا عاديًا يستعد كي يُحرم من البقاء على أرض وطنه -كما يصف- فقد سافر إلى سويسرا بعيدًا عن الوطن الذي عشقه في منفى اختياري.

وفى عام 1956 أقام الرئيس جمال عبد الناصر احتفالاً بالعيد الرابع للثورة، ومنح ناصر نفسه ولأعضاء مجلس قيادة الثورة قلادة النيل في هذا الاحتفال، وهى أرفع وسام مصري، يُمنح للأشخاص الذين لهم إسهامات مؤثرة في حياة المصريين، ولكن ثمة اثنين كانا من المحرومين من هذه القلادة الرفيعة القيمة، هما محمد نجيب، أول رئيس جمهورية لمصر، وخالد محيي الدين، الصاغ الأحمر الذي كان من الأوائل الذين كونوا تنظيم الضباط الأحرار.

وعلى الرغم من حرمانه من التكريم الذي ناله غيره من زملائه الذين شاركهم المخاطر والأحلام، وبعدما جُرد من سلطته، إلا أنه لم يتحمل أن يبقى بعيدًا عن أرض الوطن دون أن يقدم خدماته لها، وطلب من ناصر العودة إلى وطنه، فوافق الأخير، وكان المشروع الأساسي الذي كان ينوي العمل عليه بمجرد عودته إلى أرض الوطن هو العمل في السياسة منطلقًا من خلفيته اليسارية التي ألقت بظلالها على مسيرته السياسية.

ترشح محيي الدين في مجلس الأمة عن دائرة كفر شكر، واستمر عطاؤه السياسي على مدار السنين، وأسس صحيفة المساء، وتقلد مناصب عدة أبرزها رئيس اللجنة المصرية للسلام ونزع السلاح، وكان له دور في الحياة الثقافية المصرية، حيث عمل رئيسًا لمجلس إدارة وتحرير أخبار اليوم بين عامى 1964 و1965.

عهد السادات
في عهد السادات، انغمس محيي الدين في عالم السياسية، فأسس حزبًا يساريًّا عام 1976، وهو حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، الذي أثرى الحياة السياسية المصرية وكانت مظلة لليسار المصري، ولعب هذا الحزب دورًا مهمًّا في عهد رئيسه، فارس الديمقراطية، خالد محيي الدين، في الدفاع عن الحقوق، وانتقاد سلبيات النظام السياسي، فقد كان معارضًا شرسًا لسياسات السادات خاصة فيما يتعلق باتفاقية السلام، والانفتاح الاقتصادي الاستهلاكي؛ لذا فلم يلقَ محيي الدين في هذا العهد سوى الاتهام بالعمالة لروسيا، وفرض عقوبات قاسية على حزبه والجريدة التابعة له، جريدة الأهالي، وبطبيعة الحال لم يكن التكريم والتقدير اختيارًا مطروحًا.

عهد مبارك
ولم يحظ محيي الدين كذلك بالرضا التام من نظام مبارك، فقد كانت طول المدة التي تمكن خلالها من الحفاظ على مقعده البرلماني، من 1990 وحتى 2005، عن دائرة كفر شكر تثير القلق في نفس بعض رجال مبارك، وازداد عدم الرضا عنه مع رفضه الاشتراك في انتخابات رئاسية أمام الرئيس الأسبق لعدم إضفاء شرعية له ولمحاربته فساد الحكم، ومن ثم لم يكن التكريم حليفه إبان هذا العهد.

تكريم آخر العمر
ظل محيي الدين عضوًا فاعلاً في الحياة السياسية المصرية، حتى تخليه عن رئاسة الحزب عام 2002، فاختاره الحزب رئيسًا لمجلسه الاستشاري، ولكنه مع تقدم عمره فضل أن ينزوي تمامًا وأن يعتزل الحياة السياسية لتقدمه في العمر ولتدهور صحته، دون أن ينتظر مقابلاً أو تقديرًا، ولم يحصل طوال حياته، حتى هذا الحين، سوى على جائزة لينين للسلام عام 1970.

وبعد قراره بالابتعاد تمامًا عن أي منصة إعلامية بسنوات، عادت الأضواء لتتسلط عليه من جديد حينما أصدر المستشار عدلي منصور، رئيس الجمهورية السابق، قرارًا جمهوريًّا عام 2013 بمنح قلادة النيل للصاغ الأحمر خالد محيي الدين، تقديرًا لإسهاماته من أجل الوطن، أما هو، خالد محيي الدين، فقد استقبل خبر تكريمه بهذه القلادة بسعادة بالغة، قائلاً "ده أحسن خبر سمعته منذ فترة طويلة"، فهذه القلادة الذهبية وضعته على قدم المساواة مع رفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة ممن حصلوا عليها في خمسينيات القرن الماضي، وكان هذا الوسام الرفيع تكريمًا "آخر العمر"، الذي يؤكد أن محيي الدين أبدًا لم يستطع كسب ود الزعماء الثلاثة عبد الناصر، والسادات، ومبارك لكي يحصل عليه في عهدهم.

وبحصوله على هذا التكريم تكللت جهوده في حياته، ومُنح التقدير اللائق بعد مماته، فقد شُيع جثمانه في جنازة عسكرية مهيبة، الإثنين الماضي، تقدمها الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وسط حضور رجال الدولة ورموز العمل السياسي والحزبي لوداع آخر الضباط الأحرار خالد محيي الدين.
Advertisements
الجريدة الرسمية