رئيس التحرير
عصام كامل

أحمد بهجت يكتب: حكايتي مع مدفع السحور

فيتو

في كتاب من تأليفه صدر بعنوان (مذكرات صائم) كتب الكاتب الصحفي أحمد بهجت، فصلا عن مدفع السحور، قال فيه:


«كان أحد أجدادي الذين يعيشون في عصر المماليك رجلا قد أدركته حرفة الأدب، وكان يكتب خواطره في الحياة بأسلوب المقامات القديم، وقد ترك لنا أوراقا متفرقة، من بينها ورقة صفراء تحكي عن رؤية هلال شهر رمضان.

قال جدي: فلما جاء التاسع والعشرون من شهر شعبان استعد المصريون في ذلك الزمان لاستقبال أفضل الشهور وهو شهر رمضان، ففيه تسجن الشياطين ويقل ما يلقون من ظلم المماليك.

بعد صلاة العصر بقليل خرج موكب الرؤية كالمعتاد، وخرج لرؤيته كل الرجال والأولاد يتقدمهم شيخ مهدم محطم، هو المصدر المسئول عن رؤية الهلال، وهي وظيفة يتوارثها شيوخ أسرته أجيال وراء أجيال.

العجيب أن هذا الشيخ المهاب كان لا يبصر، ورغم ذلك العمى الأكيد إلا أنه كان قادرا على رؤية الهلال من بعيد.

ويزول العجب إذا عرف السبب، فقد كان الشيخ يستعيض عن نظره الضعيف بعيني مساعد له، هو شاب، فإذا رأى الشاب الهلال عرف الشيخ منه ثم ادعى أنه رآه، ويصدقه الجميع.

ويشاء السميع، أن يتغيب الشاب يومان عن الموكب في ذلك اليوم، ولم يجد الشيخ بدا من الاعتراف أنه عجز عن رؤية الهلال، فتأخر الصيام يوما بلا نقاش أو جدال.

وفي الأزمنة السحيقة كانت الاختلافات تثور بين فقهاء المسلمين على رؤية الهلال، هل يرونه بعين الشيخ أم بعين علم الفلك، وهل لعلم الفلك شرعية عين الإنسان.

جاء شهر رمضان أخيرا، فمرحبا بأفضل الشهور، أحس أن القاهرة كلها تدخل قلبي بمآذنها الألف وقبابها المزخرفة وأحياءها وحواريها القديمة.

أحب هذا الشهر بمثل الوهج الذي أحببت به أول فتاة عرفتها في حياتي، تكتسي بيوت المدينة في هذا الشهر شيئا من الجلال والرقة، وفوانيس رمضان تضئ أركان الدكاكين، والأطفال يضربون البمب، وقد استيقظت الحارة التي أسكن فيها واستيقظ معها قلبي.

أحس في الليلة الأولى من شهر رمضان أنني أرى من خلال النفس كل نفوس الآخرين، وأحس نحو الكائنات كلها بالحب، وأحس بالرفق والضعف إزاء قصص الحب الإنسانية والحيوانية والنباتية والجمادية.

في شهر رمضان أشعر أن كل شيء في الدنيا يقوم على الحب، هو الناموس المسيطر الحاكم باقي الدنيا.

ويعيدني إلى الواقع أصوات زوجتي وهي تمارس قيادتها في المطبخ استعدادا للسحور».
الجريدة الرسمية