رئيس التحرير
عصام كامل

مستعجل ليه.. الشرطة جاية


المشهد الأول.. ليل داخلي..

كان الليل يلتف بعباءة الصمت، وكنت أغط في نوم عميق عندما استيقظت فجرًا على صوت ماكينة رفع الطوب في عمارة مجاورة، مصحوبا بصوت انفجار ناجم عن إلقاء عمال البناء للطوب في الحلل أو ما يسمونه "البواريك" لتسحبها الماكينة لأعلى، ليصدر صوتا أشبه بدوي انفجار القنابل كل خمس ثوان ويضرب رأسي بعنف، ناهيك عن صوت الانفجار الذي تصدره الماكينة في نهاية كل عملية.


أدركت للوهلة الأولى أن مواصلة النوم نوع من المستحيل فنهضت وفتحت شرفة البلكونة، كان الليل يسدل ستائره والفجر يشقشق وبدأ ضوء النهار يتسلل في الأفق ليمحوا حلكة الظلام الدامس، ولما كان هذا الإزعاج يتكرر من العمارة نفسها منذ فترة طويلة قررت ألا أكون سلبيا هذه المرة، أمسكت موبايلي واتصلت بشرطة النجدة لأقدم بلاغا، كان على الطرف الآخر رجل أسمعته على الهواء من الهاتف صوت الإنفجارات الشديد لكي يكون أكثر اقتناعا بحجم جريمة الإزعاج، فسجل عنوان العمارة المذكورة بأدب كبير وكذلك بياناتي وقال لي إنه سيقوم بإبلاغ الشرطة لتتحرك وتوقف الإزعاج.

انتظرت ربع ساعة ولم يتوقف صوت الإزعاج فعاودت الاتصال مرة أخرى، فأبلغني الرجل أنه سجل البلاغ، انتظرت وكررت الاتصال نحو 10 مرات في غضون ساعة، كنت متفائلا ويحدوني الأمل في أن شيئا ما سيتم ويشفي غليلي أنا وكثير من جيراني المتضررين، وأن أحدا سيتحرك لإيقاف هذا الإزعاج غير الآدمي وغير القانوني بحق النائمين ويحرمهم من حقهم في أن ينالوا قسطا من الراحة وحدًا أدنى من ساعات نوم تمكنهم من التركيز في أعمالهم اليومية المعتادة.

المشهد الثاني.. صباح خارجي..

قررت أن أنزل بنفسي لأكون في شرف انتظار رجال الشرطة الذين سيصلون إلى موقع الإزعاج وأتشفى وأشمت في هؤلاء "المجرمين" الذين يعتقدون أننا في شبه دولة ويتمادون في ارتكاب جريمة إزعاج النائمين فجرًا، كان بداخلي بركان من الغضب والسخط لا يتناسب مع طبيعتي الهادئة وسكينتي المعتادة، حاولت زوجتي -التي كانت قد استيقظت هي الأخرى- منعي من النزول خوفا عليً من الانفعال وتداعياته، ومنها سفالة العمال الذين أمنوا العقاب ويتطاولون ويسيئون الأدب..

لكن غضبي كان أقوى من حتى الاستماع لها، كنت واثقا من أن جيراني في العمارات المجاورة الذين استيقظوا مجبرين فجرًا سينزلون ويتضامنون معي لمواجهة ووضع حد نهائي لظاهرة "عمال الفجر" التي باتت تتكرر كل يوم في كل العمارات التي يتم إنشاؤها في المكان الذي يعيشون معي فيه.

كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة صباحا عندما بدأ دخان باصات المدارس يلوث هواء الصباح النقي، اتجهت إلى العمارة مصدر الإزعاج وبدأت أخاطب العمال بصوت عالي "إنت يا بني انت وهو.. ليه ما بتشتغلوش الساعة 9 زي ما القانون بيقول.. مين سمح لكم تشتغلوا في الفجر وبعدين إحنا مش في غابة إحنا في دولة قانون.. على العموم الشرطة جاية دلوقتي وهتشوفوا هيحصل لكم إيه".

كان 4 عمال ينظرون لي من الدور الرابع للعمارة، حيث توجد ماكينة رفع الطوب، وفي نظرتهم ابتسامة سخرية بعدما سمعوني أصيح بصوت عالِ "الشرطة جاية دلوقتي".

بعد قليل أشفقت على نفسي من عدم تضامن أحد معي، فاشتد الغيظ بي وبدأت أنظر للعمارات المجاورة وكأنني أخاطب أحد سكانها بعينه "مافيش فيكم راجل ينزل يقف معايا علشان نوقف هذه الجريمة المتكررة يوميا.. كلكم مستسلمين وبتنضربوا على قفاكم من شوية عمال كل يوم".

في تلك اللحظة كان أحد سكان عمارة مواجهة يدير مفتاح سيارته تمهيدا للتوجه إلى عمله "نظر لي وفي عينيه علامات الشفقة وقال لي باطمئنان وثقة" إحنا في نفس الحال دا كل يوم.. ماتتعبش نفسك".

كان المشهد يسير في اتجاه هزيمتي النفسية، فلا الشرطة جاءت ولا تضامن معي أحد من الجيران، ولا توقف العمال عن الإزعاج، بدأ مسار حديثي ينتقل من مرحلة التهديد بقدوم الشرطة إلى مرحلة الوعيد بالانتقام الإلهي.. نظرت للعامل الذي يلقى الطوب في "البواريك" ليحدث صوت ارتطام وانفجار وقلت له" هو ماينفعش ترمي الطوب بالراحة.. ربنا هينتقم منك على الصوت اللي بتعمله".

كان رئيس العمال يدرك أننا في دولة يمكن أن يقرر فيها أي شخص أن يزعج سكان حي بأكمله وهو على يقين أنه في أمان كامل وأن أحدا لن يستطيع أن يقول له تلت التلاتة كام"، نظرت له قائلا "ربنا مش هيبارك لك على اللي بتعمله".

ثم رفعت رأسي إلى أعلى مخاطبا العمال بالدور الرابع حيث كانوا ينظرون لي بابتسامة صفراء مؤلمة ونظرة سخرية، وأخذت أردد بعد أن تقطعت أحبالي الصوتية "حسبنا الله ونعم الوكيل فيكم وفي كل من يؤذي الآخرين".

وقبل أن أهم بالانصراف جاء صوت أحد العمال من أعلى "مستعجل ليه.. الشرطة جاية دلوقتي".. ثم انطلقت ضحكة جماعية للعمال تجسد حالة الفوضى المجتمعية غير المسبوقة في دولة غاب فيها القانون وتغيبت الجهة المسئولة عن أعماله وتفعيله.. تمنيت لحظتها أن تنشق الأرض لتبلعني.

الجريدة الرسمية