رئيس التحرير
عصام كامل

الإسكندرية.. مدينة مصرية الجنسية يونانية الهوى


تزامنا مع زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره اليوناني والقبرصي للمدينة التاريخية نلقي الضوء على تاريخ مدينة سطرت علاقة مصاهرة بين ثقافات عريقة شكلت الحضارة الإنسانية.


مدينة ولدت لتكون جسرا بين الحضارات فيقول عنها "جاستين بولار" و"هاورد ريد" في كتابهما عن أصل المدن القديمة: "كانت الإسكندرية أعظم بوتقة فكرية عرفها العالم"، حيث بناها الإسكندر الأكبر بناء على حلم جاءه فيه "هوميروس" لتكون عاصمة لإمبراطورية عالمية، امتدت لتغزو قارات العالم القديم، ورغم أن موت الإسكندر لم يحقق ذلك لكنها نجحت في أن تكون جسر الثقافة بين حضارات العالم القديم..

لذا فقد كانت أول مدينة عالمية كوزموبوليتانية تدخل إلى العالم الجديد، وكان مصدر قوتها لقرون هو الثقافة بدءا من مكتبتها ومسارحها وجامعتها التي قدمت من العلوم الكثير للإنسانية، ويضيف" بولار": "صيغت الأسس التي يقوم عليها العالم الجديد بالأفكار وليس بالحجارة في أروقة هذه المدينة"، وبالتالي فإن الإسكندرية تأسست لفكرة وليس لتكون مجرد تجمع للسكان، وبنت قوتها الناعمة على الثقافة، وقد وصفها، مانفريد كلاوس، أنها كانت أعظم مدن العالم القديم بلا منازع، بل أعظم من روما ذاتها، لكن عانت المدينة من عصور تراجع خاصة بعد نقل العاصمة إلى الفسطاط، حتى قرر محمد علي باشا دعوة الأوروبيين لبناء المدينة والتوطن بها.

ما بين التاريخ القديم إلى القرن العشرين، حيث شهدت الإسكندرية أحد أهم عصور ازدهارها وتحديدا في العشرينيات حيث استطاعت أن تعود بوتقة الثقافات الكوزموبوليتانية، ويطرح "ميشيل هاج" في كتابه الإسكندرية مدينة الذكرى أحوال المدينة التي كان يقطنها أغلبية أوروبية" وكانت أكبر الجاليات هي اليونانية ثم الإيطالية ثم اليهود، ووصفت المدينة بنيويورك العالم القديم، كمدينة فاحشة الثراء كما يقول عنها "سترابو"..

وبها أهم سوق للتجارة العالمية والبنوك وبورصة القطن، بل إن بعض من المستوطنين بها أصبح ثراؤه الفاحش تتناقله الألسنة عبر القارات حتى إن بعضهم رفعه نابليون الثالث أو إمبراطور النمسا والمجر إلى طبقة النبلاء، وقد كشف "هاج" في كتابه عن نمط الحياة المتحرر مع أصدقائه قسطنطين كفافي وفورستر ولورانس دوريل عن الحرية الجنسية والحفلات الماجنة لدرجة أن سحر المدينة لم يفارق مخيلة الأوروبيون الذين هجروها بعد ١٩٥٦.

في ١٩٢٢ كانت الإسكندرية مركز الثراء السريع والجنون والبذخ والإبداع المعماري، بل إن المدينة لم تمتد إليها يد الخراب في الحرب العالمية الأولى أو الثانية بما جعلها قبلة الشعوب المهاجرة للاستقرار والأمان وتوافر مجالات الرزق، وعلى سبيل المثال كانت الحملة العسكرية التي شنتها اليونان ضد تركيا ١٩٢٠ سببت نزوح مليون يوناني وعدد مماثل من الأتراك وكانت الإسكندرية توفر أفضل سبل الحياة والعمل.

اليونانيون والطاليان أغلبية مزجوا الواقع المصري بنكهة أوروبية واقتنعوا انها مدينة الإسكندر الأكبر وليست مصرية، وقد كتب عنها فوريستر في كتابه ١٩٢٢ إنها مدينة غير متطرفة المشاعر الوطنية وإن السكندريين لم يكونوا مصريين في صميمه لكن أعتقد أن ذلك من باب المبالغة للإعراب عن مدى انفتاح المدينة.

وعن العطاء الاقتصادي الوطني كان "سلفاجو" الثري اليوناني قد أسهم في ٢٥٪‏ من رأسمال البنك الأهلي، وكان يتحمل تكاليف تعليم اليونانيين السكندريين خارج مصر إلى جانب جمعياته الخيرية، وعندما استضاف ملك اليونان إبان الحرب العالمية الثانية فقد وجد الملك حرجا في رد الضيافة في أثينا لأن قصره أقل فخامة.

منذ ١٩٢٤ كانت الإسكندرية ملجأ العائلات الملكية المخلوعة بدءا من العثمانيين إلى اليونانيين وثم ملك إيطاليا فيكتور إيمانويل الذي استقر في أملاك جوزيف سموحة الثري اليهودي صديق الملك وملك ألبانيا الذي صالحه الملك فاروق على ملك إيطاليا في الإسكندرية.

بعد مرور قرن لم يتبقَ من هذا التاريخ سوى بعض المباني الشاهدة على التاريخ والشوارع التي احتفظت بالأسماء الأوروبية، لكن عندما ترتاد مركبا صغيرا وتنظر للمدينة تجد أنها أصبحت كالمرأة العجوز التي تحاول بين الحين والحين أن تتجمل، لكن تأثير الزمن أقوى خاصة بعد عقود من تجاهل الدولة لخطط التنمية والتوسع الأفقي مع هجرة سكان الريف إليها، بما سبب اتساع رقعة العشوائيات إلى جانب تفشي ظاهرة المخالفات الرأسية كحل اجتماعي غير قانوني لمحدودية المساحات الأفقية التي لم تتوسع بها الدولة منذ عقود.

تحتاج المدينة العجوزة إلى خطة إنعاش إستراتيجية تحقق استغلال سياحي وثقافي لما تبقى من تاريخ، ويقع الدور على الدولة والمجتمع المدني في تخطيط التوسع الأفقي خارج المدينة، وتوفير المترو والطرق لحل مشكلة المرور، بما يحقق احتياجات المدينة من الزيادة السكانية السنوية، إضافة إلى خطة حضارية لتأهيل المدينة لتكون عاصمة ثقافية عالمية اعتمادا على تاريخها المصري الإغريقي، وبالاعتماد على تراثها المعماري، ومكتبة الإسكندرية..

أحلم أن يتم إعادة بناء فنار الإسكندرية وتطوير بحيرة مريوط لاستعادة موقع المدينة السياحي الذي فقدته منذ سنوات بما سبب تغير نمط الاستثمار والوظائف بما غير من التركيبة الاجتماعية بالإسكندرية لتتحول المدينة من أجمل مدينة في العالم يحلم بسكانها الأوروبيين إلى مدينة عجوز.. لكن ما زالت تحتفظ بعبق التاريخ.


إن المدن تشيد على أعمدة روحية، وهي تعكس قلوب سكانها شأنها شأن المرايا العملاقة..

شمس التبريزي (قواعد العشق الأربعون).. هكذا كانت الإسكندرية مدينة إغريقية على أرض مصرية لذا فإن عودة المدينة لسابق مجدها لن يكون إلا بتضافر الجهود والخبرات المصرية اليونانية للحفاظ على تاريخ مدينة حفرت سطورا في الحضارة الإنسانية لتعود الإسكندرية مركزا للجذب الاقتصادي والانفتاح الثقافي.
الجريدة الرسمية