رئيس التحرير
عصام كامل

«فيتو» تتبع خُطوات «القس مكاري».. أول كاهن يحاضر طلاب جامعة القاهرة بـ«زي كنسي»

فيتو

قبل ما يقرب من 20 يوما، غيب الموت القمص مكاري عبد الله، كاهن كنيسة الملاك بطوسون، أول قس يحاضر داخل مدرجات جامعات القاهرة، مرتديا زي الكهنوت، محتفظًا بمنصبه الكنسي.


قصة القمص المتنيح بدأت فصولها في سبعينيات القرن الماضي، وتحديدا في العام 1970، وقتها وقع اختيار البابا كيرلس على الدكتور أديب عبد الله، المدرس المساعد للرياضيات بكلية العلوم جامعة القاهرة، لترسيمه كاهنًا على كنيسة الملاك بمنطقة طوسون بشبرا.



الدكتور أديب، الذي أصبح القس مكاري بعد سيامته كاهنًا، كان متخصصًا في مادة "المتغيرات المُركبة"، ويعتبر من القلائل المتخصصين في هذا العلم، إذ إنه في غاية الصعوبة والتعقيد، وكان أديب من محبي البابا كيرلس السادس ودائم التردد عليه تبركًا به، وفي إحدى زياراته له قال له البابا كيرلس: "أنا عايز أعملك قسيس؟".



لم يعِر الدكتور أديب كلام البابا اهتمامًا في بادئ الأمر، معتقدًا أنها مداعبة منه، ولكن البابا أعاد عليه نفس المطلب قائلًا له: "المسيح داعيك"، وأمام إصرار البابا وتأكيده على أنها دعوة من المسيح قبل أديب التكليف، وسط حالة من الدهشة من كهنة الكنيسة الذين أبدوا دهشتهم من الأمر، وتساءلوا كيف سيضحي أستاذ جامعي بمنصبه المرموق ويقبل التفرغ لكنيسته، إلا أن موقف الدكتور أديب كان واضحًا: "الدعوة من الرب وعبر شخص يثق به ويقدره وأنه قبل المهمة". 



شرع أديب في تجهيز نفسه للرسامة، وتقدم باستقالته لرئيس قسم الرياضيات بالكلية، ولأنه كان على خلاف في وجهات النظر مع رئيس القسم توقع قبول الاستقالة فورا، لأن الفرصة ستكون سانحة أمامه للتخلص من صداعه، غير أن المفاجأة أنه رفض وبشكل قاطع استقالته، وقال له نصًا: "أنا معنديش بديل لك.. والأمانة العلمية تفرض عليّٓ عدم قبول الاستقالة".



حاول أديب إقناع رئيس قسمه بقبول الاستقالة مجددًا، وأخبره أنه يحتاج إليها لأنه يريد التفرغ الكامل للخدمة الدينية، لكنه ظل على موقفه الرافض وعرض الأمر على عميد الكلية، ورئيس الجامعة واللذين اقترحا احتفاظ أديب بوظيفته الجامعية، وأنه لا يوجد ما يمنع حضوره للجامعة بالزى الكهنوتي، ولكن الدكتور أديب أبلغهم باستحالة قبول الكنيسة لهذا الاقتراح، وفي ظل هذه المناقشات وفي إحدى زيارات أديب للبابا كيرلس سأله عما وصل إليه مع الجامعة، وعندما علم باقتراح العميد ورئيس الجامعة كان رأي قداسته مخالفًا لكل التوقعات، وإذ به يقول للدكتور أديب: "اقبل يا ابني كله لمجد اسم الله".



في تلك الفترة كان الدكتور أديب بدأ في الحفظ والاستعداد لترسيمه، وقبيل حفل الترسيم دارت مناقشات مطولة حول اختيار اسم كنسي للكاهن الجديد انتهت إلى اختيار اسم "مكارى" لإطلاقه على أديب، وخلال مراسم رسامته قال له البابا كيرلس: "عارف أنا سميتك مكاري ليه؟ لأنك هتكون طوباوي"، وكان البابا كيرلس يترك لكل كاهن حرية أن يختار الدير الذي يقضي به الأربعين يومًا، وقد اختار مكاري دير الشهيد مارمينا العجائبي بمريوط، وخلال فترة قضاء القس مكاري لمدة الأربعين يوما تم الإعلان عن فوزه بجائزة الدولة التشجيعية ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى تقديرا لأبحاثه العلمية. 



رحلة القمص مكاري العلمية كانت مملوءة بالإنجازات، ففي سبتمبر عام ١٩٧٣ حصل على درجة الأستاذية، وفي عام ١٩٧٦ شغل منصب رئيس قسم الرياضيات لأكثر من دورة، وفي سبتمبر ١٩٨٨ عُين أستاذًا متفرغًا، وشغل منصب عضو بمجلس كلية العلوم لأكثر من مرة، ومنذ عام ١٩٨٨عُين عضوًا بلجنة الرياضيات بالمجلس الأعلى للجامعات، وكذا في عام ١٩٩٨ عند إنشاء أكاديمية السادات أُختير عضوًا باللجنة العلمية الدائمة للأكاديمية، وله العديد من الأبحاث المنشورة بأكبر المجلات العالمية ومعروف على مستوى رواد الرياضيات العالمين باسم "بروفيسور فضل الله"، ولطبيعة عمله بالجامعة فقد سافر للعديد من البلدان ولفترات طويلة تارة باعتباره دارسا وتارة كمحاضر أو ممثلا لمصر في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية، ومنحه البابا شنودة تصريحا دائما بالصلاة وإقامة القداسات للمسيحيين المقيمين بأي بلد يحل به.

داخل جامعة القاهرة، يحمل تلاميذ القمص المتنيح ذكريات خاصة مع أستاذهم، حيث كان يخرج من عباءته الدينية، وتتجلى صورته كأستاذ ومعلم لأجيال متعاقبة من أساتذة قسم الرياضيات بكلية العلوم. 



أمام حجرته وقف الدكتور سمير لطفي أستاذ الرياضيات البحتة، يسترجع عدة مواقف جمعتهما معا، يشير بيديه إلى ركن بعيد أسفل النافذة، "ستين سنة ودكتور أديب عبد الله قاعد هنا، ربانا وكبرنا على إيديه".

ما زال عقل سمير متوقفًا عند يوم التاسع من أبريل 2018، حينما أخبروه بوفاة معلمه وأبيه و"حلّال عقده" بالكلية، منذ كان في سنوات دراسته الأولى، بينما نُصب الدكتور أديب أو مكاري عبد الله رئيسا للقسم في عام 1980: "أنا كنت ابنه وحلقة الوصل بينه وبين الكلية بعد انقطاعه عنها عام 2012، بسبب تكالب الأمراض عليه".

يلتقط الدكتور ناصر سويلم رئيس قسم الرياضيات بالكلية، خيط الحديث بعد إطراقة قصيرة، وقبل أن يعود لصمته من جديد قائلا: "الدكتور أديب كان يتفك بخمس دكاترة من أساتذة اليومين دول، خمسة فقط بشخصيته، قادرين على إدارة جامعة القاهرة عن بكرة أبيها!، كان حتى آخر أيامه بالجامعة حريصا على متابعتنا ونحن معيدون ومتابعة الطلبة أثناء المحاضرة، ماكانش بيقعد على مكتبه ساعتين على بعضهما".

يتحدث سويلم عن كيف كانوا كطلاب يتعاملون مع أستاذهم الذي يحاضرهم بزي الكهنوت: "إحنا من حبنا وتعلقنا به كأب وأستاذ ومصلح اجتماعي لشئوننا لم نعر اهتماما لمظهره أو أي مناصب أخرى تقلدها، كان يدخل المحاضرة معه نماذج لأشكال هندسية بندرسها في الكتب وعلى الورق، كل الدكاترة وقتها كانوا مهتمين بإلقاء المحاضرة شفهية كما هي ويخرجون، هو كان كل شكل هندسي مقرر علينا دراسته، يسهر على تصميمه، ويأتي ثاني يوم بيه مصمم بشكل دقيق جدا". 

يزيح الدكتور هاني الحسيني أستاذ الرياضيات النظارة عن وجهه، مسترجعا ذكرى السنة الأخيرة له بالكلية، وكيف احتضنه أديب حينما عاد من الخارج، ليعمل مدرسا مساعدا في مادة تحليل المركب، فيقرر حينها أديب أن يضع فيه كامل ثقته بأن جعله يُطور من نظام الامتحان الشفوي حديث العهد بالكلية، مؤكدا أنه كان يضع كل ثقته في شريحة الشباب".



وأضاف: "أديب لم يدرس التحليل المركب فقط، بل تعمق في تدريس مواد الجبر الخطي، والطوبولوجي، وعلم النبات والهندسة الرياضية في كلية الهندسة جامعة القاهرة، وعلوم الزراعة في مبنى كلية الزراعة، لم يكن هناك أستاذ بعلوم القاهرة، لم يحضر محاضرة على الأقل للدكتور أديب".

شعب الكنيسة كان له هو الآخر حكايات مع القمص المتنيح، ففي قاعة مجلس الكهنة بكنيسة الملاك "بطوسون" في حي شبرا بالقاهرة، جلست الأربعينية "كريستين رزق الله"، تكتب رسالة أخيرة بيد مرتعشة، تتقاطر دموعها على الصفحة البيضاء، تستعيد ليلة الإثنين التاسع من أبريل الجاري، حينما تجهزت للقائها المرتقب منذ شهر، "لقاء الاعتراف والتناول"، وهو الطقس الشهري الثابت لدى جميع المسيحيين، لكن هذا الشهر لم يكن عاديا، الاستثنائية والوحشة كانتا سيدتي المشهد، منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها منزل الأسقف مكاري عبد الله، كاهن الكنيسة منذ عام 1970، والأب الروحي، لها من تقف بين يديه تدلي بما اقترفته من ذنوب خلال الشهر، ليخبرها ابنه الأكبر "إبرام" أنه توفي منذ نصف ساعة، ولا يمكنها الاعتراف والتناول بين يديه بعد اليوم.



"مضى إلى بيته وسافر للأمجاد السماوية مع أفراح القيامة"، في مربع منزوِ من صفحة مكتظة بعبارات التعازي في جريدة الأهرام، عدد التاسع من أبريل وجدت هذه العبارة، تشير إلى وفاة الأسقف مكاري عبد الله، كاهن كنيسة الملاك بطوسون في شبرا، عشية عيد القيامة المجيد، وذلك عن عمر ناهز التسعين عاما.

يتحدث "إيميل وجدي" أحد خدام الكنيسة، والابن البار للراحل عن خصاله: "رجل خرق قوانين الطبيعة وشب خارج طوق المألوف، استطاع وعن جدارة أن يجمع ما بين دينه ودنياه، ما بين حياة التعبد والصلوات في الخلوات، والانخراط في الحياة العملية والعلمية، ليحمل بذلك وجهين لجسد واحد، واسمين لأيقونة واحدة، فتارة هو الأستاذ الجامعي بقسم الرياضيات البحتة في كلية العلوم جامعة القاهرة، وتارة أخرى الأب "مكاري عبد الله" أسقف كنيسة بطوسون، "البابا كيرلس السادس هو من أطلق عليه هذا اللقب حينما تم ترسيمه سنة 1970، كان دكتور جامعي منذ عام 1962 باسم أديب، لكنه اختار له اسم مكاري وتعني بالعربية الطوباوي الخير".

داخل قاعة الكهنة، توافدوا تباعا منكسي الرأس يكسو الحزن وجوههم، كل منهم ممسك بورقة وقلم، البعض انتهى لتوه من إفراغ ما بداخله من كلمات لم يسعهم القدر أن يبلغوها له قبل أن يرحل عنهم، فقرروا أن يجمعوا كل المواقف التي جمعتهم بأبيهم الروحي والكنسي "الكاهن مكاري"، وتمهيدا لطباعتها في مجلد كبير، يوزع على خدام وأبناء الكنيسة بالتساوي.



يصف ايميل المشهد: "الناس هنا كلهم اللي اتربوا واتعلموا على إيد أبونا مكاري قرروا كل جمعة يحضروا ومعاهم أوراق يكتبوا فيها كل حاجة عنه أو عايزين يقولوها، وقسم الكمبيوتر بيتولى كتابة ما تم إنجازه بشكل مستمر، تمهيدا لطباعة الكتاب".

"إليك السلام أيها الطوباوي.. علمتنا أن من يدخل الكنيسة دون صلاة أو صوم، يكون كالنسر مبتور الجناحين..أرقد في سلام"، يتوسط إيميل كريستين وماجدة الخادمتين، العاكفات على إعداد الكتاب، يخط هذه العبارات، يغالب دموعه فتسقط رغما عنه، يتذكر السنة الأولى له في الكنيسة، حينما بلغ السادسة من عمره، وأحضرته أمه للكاهن مكاري عبد الله، للاعتراف والتناول، تملكه الخوف حينها، لم يعرف ماذا يقال في تلك اللحظات، أراد أن يعترف بخطأه في حق أحد أصدقائه، ضحك حينها الأب مكاري وعلمه ما هو الاعتراف وكيف تكون الصلاة في الكنيسة، وثواب الصيام الانقطاعي، وحضور كل الصلوات، يقول إيميل: "أبونا مكاري كان بيحترم الكنيسة كان بيحفظنا منذ نعومة أظافرنا الآية المقدسة، ببيتك يارب طريق القداسة. عرفته أبا حنونا في طفولتي، ومعلما صارما وحقا في كبري، شعرت حينما علمت بوفاته، أن أحد أعمدة الكنيسة قد انهار، أصبحنا يتامى وانقطع جزء هام من أرواحنا".

ويقول سيراج، أحد خدام الكنيسة، ومن رافق الراحل في أيامه الأخيرة، بعد أن منعه كبر سنه من المجيء إلى الكنيسة بشكل دوري، ومع ذلك حرص على حضور القداس بصفة دورية حتى بلغ الـ89 عاما:"كنت بروح بيته كل جمعة وأحد أسنده وأوصله للكنيسة لحضور القداس، أنا أعرفه من 35 سنة، كنت طفل بيلعب حواليه أثناء الصلاة وعمره ما نهرني أو تطاول عليا".

جمعية "إخوة الرب" التي أسسها الكاهن الراحل مكاري عبد الله، كانت السبب الرئيسي في التفاف جمع من خدام الكنيسة حوله: "حرص وحتى آخر لحظاته في صحن الكنيسة، على متابعة فقراء الحي، ومعرفة ما يتطلبه كل بيت، وكل أسرة، الجمعية لما أنشأت كان متعارف عليها بأنها تقدم مبالغ محدودة للفقراء، لكن قداسة أبونا حرص على أن يعطي بسخاء ووفرة، كل أموال الكنيسة للفقير، كان بيعلمنا إنهم أقرب المخلوقات لربنا".
الجريدة الرسمية