رئيس التحرير
عصام كامل

حكاية الشيف الإيطالي «سيلا»..عشق مصر ومات وحيدًا في «الحي الهادئ»

فيتو

في العاشرة من صباح الجمعة قبل الماضي، استيقظت السيدة "إيناس" القاطنة بالطابق الثاني من العقار رقم 5 بشارع "جول جمال" في منطقة المهندسين، على وقع أقدام تتجه إلى الطابق الخامس، حيث يسكن "الشيف الإيطالي سيلا" الذي حضر إلى العمارة منذ نهاية عام 2009، بعد أن رفض العودة إلى إيطاليا، تعلقا بمصر و"بناس المنطقة"، اضطربت إيناس وبدت الشكوك تساورها خاصة وأنها على دراية بما تعرض له سيلا من أزمات صحية متتالية في الفترة الأخيرة.


مر نصف ساعة، قبل أن ينزل أحد ضباط الأمن من الطابق ذاته، يخبرها بأنهم وجدوا جثة "سيلا" ملقاه على الأرض بعد أن صعدت روحه إلى السماء منذ ساعات عدة، ولم يدرِ أحد من سكان العقار بما حدث: "مصدقتش إن سيلا خلاص سابنا ومشي، كان هو الحياة للعمارة الكئيبة دي" تتحدث السيدة إيناس.

"سيلا" 79 عاما، شيف إيطالي الجنسية، مصري الهوى، من مواليد مدينة "تورينو" بإيطاليا، غادر موطنه منذ نحو خمسة عشر عاما، تاركا خلفه زوجة رفضت أن تستقر بالقاهرة، حيث توجه للعمل في أحد المطاعم " 4 نجوم"، فانفصلت عنه، وابنا في الخامسة والأربعين من عمره يعمل مهندسا بمدينة لندن.

عشق من نوع خاص
علاقة "سيلا" بمصر كان ورائها عشق خفي نُسجت خيوطه بينه وبين "أم الدنيا"، فقرر أن يعيش بها، ويسلم روحه إلى خالقها في أحد شوارعها الأقرب إلى قلبه والكائن بالحي الهادئ في منطقة المهندسين، على الفراش الذي قضى به آخر ثلاث سنوات من عمره، تقول جارته إيناس مغالبة دمعة تسقط من عينها: "كنت كل ما أقوله طيب يا سيلا نبعت لابنك ييجي يشوفك وياخدك معاه لندن، يتعصب علينا ويقول لنا بالعربي المكسر: "أنا هموت في مصر أنا بلدي مصر"، وحتى لما كنا نقول له طب سافر غير جو، يقول لنا بغير جو في شرم الشيخ والغردقة".

علامات البهجة العابرة الي بدت على وجه السيدة العجوز، توحي ببقاء روح هذا "الخواجة العجوز" في العقار، حتى بعد أن تركته ورحلت في صمت وهدوء كما عاش هو سنوات عمره بمصر، ففي ليلة وفاته، خيم الحزن على كافة الطوابق، لم ينم الصغار والكبار حزنا على سيلا، الأجنبي صاحب الجسد الصغير والوجه دقيق الملامح: "كان بيلم أحفادي حواليه كأنهم أحفاده، يعلمهم الإيطالي والفرنسي ويلعب معاهم، وياما علمني أعمل أكل إيطالي، ويقعد مع زوجي يتكلم زي أي مصري في الكرة والاقتصاد والسياسة" تتابع إيناس.


"مصطفينو" الابن البار ومفتاح سر "سيلا"
قبل عشر سنوات، التقى سيلا ابنه المصري، مصطفى محمود، والذي يعمل "شيف" للمطبخ الإيطالي بدولة الإمارات منذ نحو عامين، على سلم مطعم "شيتشو" بحي المهندسين، أخبره صديقه أنه وجد له وظيفة مناسبة مع طباخ إيطالي ذو مسحة مصرية،: "وقتها كانت أول مرة أشوفه وقرر يسميني مصطفينو ويقول لي: "ماركو ابني في لندن وأنت ابني في مصر، سر المطبخ الإيطالي ما خرجهوش غير لي وحدي، كنت بقضي معاه وقت أطول من اللي بقضيه مع والدي ووالدتي".

لم ينس مصطفى يوما فضل والده الروحي "سيلا" عالية في مجال الطهي، وفي أواخر أيامه كان الوحيد الذي يحرص على متابعة حالته الصحية باستمرار، يوصي زملاءه المقيمين في مصر أن يحضروا له الطعام والأموال بانتظام: "هو آخر كام سنة بعد ما سافرت بطل يشتغل خالص وقال مش هشتغل من غير مصطفينو، وحالته المادية بدأت تتدهور وكنا بنحاول نساعده، هو كان بيساعدنا وقت بداية شغلنا معاه، وكان بينزل يشتري أكل المطعم بنفسه علشان ميتعبناش، والفقراء والمحتاجين كانوا بيصطفوا ورا العمارة اللي فيها المطعم ياخدوا منه فلوس كان حنين جدا عليهم وعلينا".


برنامج طبخ
ظلت المطاعم والفنادق تتقاذف "سيلا" وتلميذه "مصطفينو" كما أطلق عليه، سنوات متتالية، ما بين فنادق النجمتين والفنادق ذات النجوم الخمس، ومطاعم أحياء الزمالك والمهندسين ووسط القاهرة، حتى حل شتاء 2010، حينما جاء عرض من قناة النيل الفضائية لـ "سيلا" لتقديم فقرة تليفزيونية عن المطبخ الإيطالي، فما كان من سيلا إلا أن وضع شرطا أساسيا لقبول العرض، وهو إحضار مصطفينو للبرنامج والمشاركة به بعد أن ظل فترة طويلة محجما عن مناقشة العرض.

بذل التلميذ محاولات مضنية مع استاذه ليقنعه بعرض التليفزيون، "مكنش بيطمن في الشغل إلا وأنا جنبه وبساعده، كنت أنا والاسبريسو والسجاير رفقائه في الحياة الفاضية من حواليه!".

وقت الفراق
بعد قبول شروطه بدأ سيلا برنامجه، وظلت حلقاته تذاع بشكل دوري، إلى أن قامت ثورة يناير، وألغي البرنامج، ليعود الرفيقان إلى المطاعم مرة أخرى، بعدها أعادا تقديم البرنامج معا على إحدى المحطات الفضائية الخاصة، إلى أن سافر مصطفى إلى دبي، لتتوقف حياة سيلا عند هذا اليوم، في انتظار انقضاء الأجل في الشقة الخاوية، :"لما قولتله إن جالي شغل في الإمارات وعرض كويس وهسافر اشوف مستقبلي، يومها مش هنسى دموعه وهو بيترجاني مسافرش، ومن وقتها مشتغلش تاني، سيبته غصب عني بسبب ظروف الحياة الصعبة، لكنه كان خير داعم لي وكان أحن عليا من ابويا" 


مشجع يوفينتوس
تعلق سيلا بالمطبخ المصري، فأحب "الفاصوليا البيضاء" و"الملوخية"، لكن إيطاليا الوطن البعيد، ظل في قلبه، تتجلى مظاهر حبه لها، يوم تعلن مباراة لإيطاليا على إحدى القنوات، " كان بيشجع فريق يوفينتوس فقط ولا يهتم بالكرة إلا لأجله"، لم يدخل على مطبخه الصغير سوى الأكلات الإيطالية، كانت إيطاليا بجوار مصر دائما في عبارات سيلا وأحاديثه.


يستعيد مصطفى اللحظات الأخيرة التي التقى خلالها سيلا، يوم نزل إلى القاهرة في فبراير من العام الحالي، ومر على شارعه، لم يستطع الأب سيلا أن يتماسك أمامه، بكى ليظل معه ولا يسافر ثانية، يقول مصطفى: " قبل ما يموت جاله مرض في الجلد وممنوع ينزل في الشمس، لكن لما عرف اني نازل مصر إجازة، لبس جوانتي جلد علشان ينزل يشوفني، قابلته يومها وقبل ما امشي ودعته وكان بيعيط".

ترك سيلا وطنه الأم وجاء لمحبوبته مصر، تركه أيضا ابنه ليباشر عمله في مدينة لندن، فأصبح أبا لعشرات الشباب والأطفال في مصر، فضلا عن رفيق مشواره المهني القصير "مصطفى محمود"، ونفر من أبناء الجاليات الإيطالية المقيمين بالقاهرة.
الجريدة الرسمية