رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

ثمن الجنازة


شرد الكاتب الكبير قليلا وهو يشاهد صور جنازة الراحل أحمد خالد توفيق رحمه الله، تخيل شكل جنازته بعد عمر طويل، حاول أن يختلس نظرة من داخل نعشه ليستطلع وجوه المشيعين، وجد زوجته وأولاده، إخوته وأبناء عمه ماعدا ثلاثة منهم اختلفوا معه على ميراث جدهم، غاب أبناء خاله الأثرياء لأن بعضهم يعمل في الخليج، والبعض الآخر ليس لديه وقت، أما أصدقاؤه فقد قرروا الاكتفاء بحضور ليلة العزاء التي ستقام في عمر مكرم أو مسجد الشرطة، حيث الصحافة وكاميرات الفضائيات..


بحث عن مندوب الرئاسة فلم يجده، وزير الثقافة أوفد مدير مكتبه لأن جدول أعماله مزدحم، لم يحضر الناقد المعروف "حامد جزرة"؛ لأنه يشارك في مؤتمر أدبي في الخليج، ويقدم فيه بحثًا مهمًا عن جدلية العلاقة بين الأديب وسقف الغرفة، حيث ثبت أن كل الكتاب يقضون أغلب وقتهم وهو يحملقون في سقف بيوتهم!

المهم القراء.. أين القراء؟ أين المعجبون والمعجبات؟! حتى الخمسين شخصًا الذين كانوا يضغطون "لايك" لأي بوست يكتبه على "فيس بوك"، لم يحضر منهم سوى ثلاثة فقط، هم في الأصل يسكنون بجوار المسجد الذي أقيمت فيه صلاة الجنازة، قبل أن يعود الكاتب الكبير إلى مكانه في النعش، يحصي عدد المشيعين جميعًا، فيجدهم نحو35 شخصًا، في مقدمتهم "عرفة"، جرسون مقهى المثقفين في وسط البلد، والله فيك الخير يا عرفة!

يفيق الكاتب الكبير من شروده، يشرع قلمه، ويبدأ في كتابة مقال طويل، يسب فيه أحمد خالد توفيق، ويلعن كل من شيع جثمانه، ومن كتب عنه على "فيس بوك"، ومن بكى حزنًا على فراقه، في السر أو في العلن!

يشاء القدر ألا يدفع أحمد خالد توفيق طوال حياته ثمنًا لموقف سياسي، أو وجهة نظر تصطدم بثوابت أو تقاليد، ولا لقراءة مختلفة لنص ديني أو مرحلة تاريخية، لكنه يدفع ثمنًا فادحًا لجنازته، يعاقبه المثقفون على كثرة عدد محبيه، وإصرار الآلاف منهم على تشييع جثمانه ليواري الثرى، تُشرع الخناجر لتنال منه، مرة لأنه سطحي وتافه، ومرة لأنه يكتب بمقاييس السوق مهتمًا بالرواج على حساب القيمة، وأخرى لأنه من الخلايا النائمة لجماعة الإخوان المسلمين!

كل الذين هاجموه لم يسألوا أنفسهم عن سر هذه المحبة، عن سبب تلك الشهرة العريضة، ولو ناقشوا الأمر بهدوء، وموضوعية، سوف يكتشفون أن الراحل نجح فيما فشل فيه خصومه، استطاع أن يصل إلى الناس، اختار قطاعًا كبيرًا يكتب له وعنه، كتابة سطحية، لكنها تحقق متعة القراءة لبشر يعيشون بيننا، لهم ذائقة أدبية مختلفة، يستمتعون بالرواية باعتبارها "حكاية"، صحيح أن الفرق كبير، لكن هل من المنطقي أن نحاكمهم على ذوقهم الأدبي؟!

نزل أحمد خالد توفيق للناس، كتب لهم قصصا ممتعة –من وجهة نظرهم– بلغة بسيطة، تراعي أن قارئ الرواية ليس مطلوبًا منه أن يحمل درجة الدكتوراه في الأدب، نشر "حكايات لطيفة" صادفت جمهورًا عريضًا، أحبها، وارتبط بشخصياتها ومؤلفها.. فهل أجرم الرجل؟

في المقابل، وقع خصومه في فخ العمق، أدمنوا الكتابة الملغزة، تعالوا على قارئ "يفك الخط بالكاد"، بسبب انهيار التعليم ورفع الدولة يدها عن وضع إستراتيجية ثقافية تستهدف النهوض بالمجتمع، فرحوا بتصفيق أصدقائهم الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، انبهروا بصور ندواتهم التي تقام في غرف مغلقة، ولا يحضرها سوى المؤلف وأصحابه، أو على مقهى يتجمع عليه الباحثون عن فنجان قهوة مجاني وسيجارة.. فلماذا يندهش هؤلاء من انعدام شعبيتهم، وعدم ارتباط القارئ بهم أو بأعمالهم؟

تسألني: وهل أنت مع نمط الكتابة الذي قدمه أحمد خالد توفيق؟

وأجيب بالنفي، فلم أكن من قراء رواياته، ولم تربطني به علاقة شخصية، لكنني في الوقت ذاته، مصدوم من نهش جثمانه، دون ذنب جناه سوى أن له قراءً ومعجبين شبابًا يقولون إنهم بسببه أحبوا القراءة، تفاعلوا مع كلماته وشخصيات رواياته التي نراها تافهة وسطحية، فتح المثقفون أفواههم دهشة، وهم يرون جثمان هذا المجهول النكرة –من وجهة نظرهم– تشيعه الآلاف، وكأن الرجل كان مطلوبًا منه أن يوصي لنفسه بجنازة سرية، أو يطل من نعشه ليهش المشيعين، ويأمرهم بالانصراف حتى يتقي شر من يستكثر عليه جنازته الحاشدة!

أحمد خالد توفيق حضر لأنكم غائبون؛ نجح لأنكم فاشلون، راجت كتبه وباعت آلاف النسخ لأنكم منعزلون، أحبه الشباب لأنه البسيط المتواضع وأنتم النرجسيون، المتعالون!

وإذا كنتم تأملون في جنازة حاشدة مثل جنازته، ابحثوا عن صيغة يحب بها الناس "عمقكم"، ويلفظون "تفاهته"، ابحثوا عن قراء حقيقيين، ليسوا من الرواد الدائمين لمقاهي وسط البلد، تذكروا نجاح العظيم عبدالرحمن الأبنودي، الذي حفظ أشعاره المثقفون والفلاحون البسطاء في القرى والنجوع، تذكروا وصية الأبنودي حين قال:
إذا مش نازلين للناس فبلاش
والزم بيتك... بيتك.... بيتك....
وابلع صوتك وافتكر اليوم ده
لأنه تاريخ موتي وموتك...
Advertisements
الجريدة الرسمية