رئيس التحرير
عصام كامل

صراع الأيام الأولى في حياة العندليب الأسمر

فيتو

في مجلة «الكواكب» العدد 1341 عام 1977، وبعد وفاة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ بنحو شهر كتب الصحفى يوسف فكرى مقالا قال فيه:


عرفته منذ الخطوة الأولى على طريق بدايته الفنية، كان صبيًا أبرز صفاته اعتلال صحته وتواضع ملابسه والفقر الشديد الواضح عليه لكن كان هناك الذكاء الأشد.

وبدعوة من صديق ذهبت إلى مسرح دار الحكمة بشارع قصر العيني عام 1952 لأستمع إلى عبد الحليم حافظ في حفل كلية الصيدلة.

وقبل أن يظهر عبد الحليم على المسرح فوجئت بمذيع الحفل يرجو الحاضرين الإصغاء التام؛ لأن مطرب الحفل لا يتحمل الأصوات المتصاعدة من الصالة ولا يستطيع الغناء إلا في هدوء.

أدهشني هذا الكلام وقلت مَن عبد الحليم هذا؟! حتى يطلب أن يسكت الناس، لكنى قلت لنفسى لعلها مقدمة دعائية من مذيع الحفل، وعندما بدأ صوت عبد الحليم حافظ ينبعث خلال الميكروفون وهو يشدو "صافينى مرة" أدركت أن صمت الصالة كان ضروريًا لهذا الصوت الخفيض.

لاحظت أن المطرب نفسه كان في حاجة لسكون تام إلا من الأنفاس والصوت المتصاعد، فقد كان يغمض عينيه ويخفض رأسه ولا شيء يتحرك سوى رقبته وشفتيه، كـأنه يخشى على صوته من أن يخدش من أي حركة أو أي لفظ.

وأشهد أننى لم يشدنى صوت عبد الحليم في ذلك اليوم بقدر ما شدنى طريقة أدائه الجديدة، ومع ذلك وجدت نفسى أغوص بأذنى وراء أداء ذلك الصبى الفذ.

عرفت أن المطرب يتردد يوميًا على معهد الموسيقى العربية، وكان لى صديق حميم يعمل في المعهد هو العواد عبد المنعم عرفة وتعللت بزيارته لأسأل عن عبد الحليم وتعرفت عليه، وكان يومها في غاية الضيق يكاد يبكي لأنه قضى يومًا بالإذاعة يناضل من أجل قبول إحدى أغانيه، ولمحت ثقة غريبة في عينيه وهو يرد بقوله إنهم لا يفهمون.. إنهم لا يرفضون اللحن لكنهم يعترضون على طريقة الأداء.

قلت له ولماذا لا تغنى بطرقة الأداء التي تريدها لجنة الاستماع؟ قال بمنتهى البساطة: وماذا يتبقى لى بعد أن أتخلى عن طريقتى؟
أدركت يومها أن هذا الفتى الذكى اختار لنفسه ــ عن يقين ـــ أسلوبه في الأداء وأيقن أن هذا الأسلوب هو طريقه الوحيد في الغناء والشهرة والمجد وسط الشوامخ الصوتية الراسخة في ذلك الحين.

وهذا بلا جدال ذكاء حاد من عبد الحليم الذي أدرك أن صوته وحده ليس كافيًا؛ لأن يحقق له المعجزة لأنه لم يكن أعظم الأصوات يومها.

وخلال هذا الصراع الفني المرير ظهر الأسلوب الأدائي الجديد لعبد الحليم.. انبثق من النظرة الذكية الممعنة في واقع الغناء المصري، وظل هذا الأسلوب يترنح لسنوات بين الرفض والقبول وعبد الحليم من خلفه يحميه ويدعمه إلى أن أصبح حقيقة واقعة في عالم الغناء المصري.
الجريدة الرسمية