رئيس التحرير
عصام كامل

مشاوير كمال حسن علي (3)


ظلت "حرب اليمن" بالنسبة لي لغزًا، ومسألة غامضة، يراها الكثيرون ممن قرأت مذكراتهم، أنها غلطة العمر لجمال عبدالناصر، والتمهيد الطبيعي لهزيمة 1967، والحق أنها كانت فعلًا المدخل لكارثة النكسة، ولكن كواليس وأسرار تلك الحرب، لا يكشفها، ويفك ألغازها مثل الفريق أول "كمال حسن على" في مذكراته.


يقول "كمال على" عن بداية التحاقه بالقوات المصرية الموجودة باليمن: "أول مرة يقع فيها بصري من نافذة الطائرة قبل هبوطها على أرض صنعاء، أصابتني صدمة عنيفة لهول التخلف الذي كنا نطير فوقه حتى هبطت الطائرة فوق أرض المطار الترابية غير المرصوفة".

وخلال أسبوع قضاه بين ربوع صنعاء، اتضحت له معالم الصورة الكاملة، وأدرك أسباب قيام العسكريين من أهل البلاد بانقلاب عسكري، جاء متأخرًا عن موعده سنوات عديدة.. فقد عاش اليمن في القرون الوسطى وفي تخلف تام، وعزلة كاملة عن العالم تحت حكم الأئمة الذي امتد لنحو 1100 عام، قُتِل خلالها 18 إمامًا منهم.

ويلجأ لرواية دعابة مشهورة، كانت تقول إنه عندما بُعِث سيدنا آدم إلى الوجود مرة أخرى، اصطحبه أحد الملائكة في جولة سريعة؛ ليريه ممالك العالم، وما صارت عليه من تغير منذ العهود الأولى للأرض.. وظل سيدُنا آدم يتعجب من كل شيء، وكان يسأل الملاك عن اسم كل مملكة تصادفهما، ويجيب الملاكُ: هذه مصر، ويتعجب سيدُنا آدم من تغير شكلها، ثم ينتقلان إلى الهند مثلا.. حتى وصلا إلى اليمن، فنظر آدمُ إلى الملاك، وقال له: لا داعيَ أن تذكر لي اسم هذا البلد؛ إنه اليمن!

والمغزى أن حال اليمن لم يتغير من زمن سيدنا آدم!

كان الإمامُ أحمد آخر الأئمة الذين حكموا اليمن، ذا شخصية أسطورية، أحكمَ عزلَ البلد تمامًا عن حضارات العالم الخارجي، وعندما تُوفي في 19 سبتمبر 1962، خلفه ابنُه الإمامُ البدر، وليُّ عهده، الذي لم يمكث في الحكم سوى أسبوعٍ واحد، ثم كانت الثورة التي اندلعت ليلة 25/26 سبتمبر، وظنَّ الجميعُ أنه قُتِل، وأُعلن ذلك في بيان رسمي.. وفي صباح اليوم التالي أُعلن سقوطُ الملكية، وقيام الجمهورية العربية اليمنية ابتداء من الساعة الخامسة يوم 26 سبتمبر، ولكن سرعان ما ظهر وليُّ العهد الهاربُ في بلدةٍ شمال غرب اليمن.

زحفت بعض القبائل إلى صنعاء بدعوى التهنئة بالثورة، ولكنها كانت تخطط لاحتلال العاصمة، ونهبها، مثلما حدث في مرات كثيرة سابقة، كما كان يُخشى من قيام الطيران السعودي والبريطاني "من عدن" بتحركات مضادة للثورة.

وكانت القاهرة قد أعدت طائرةً من طراز "داكوتا" في أسوان، وبها محطة إرسال وصواريخ، تمهيدًا للتحرك لليمن، وبالفعل وصلتها في اليوم الثالث، وعلى متنها اثنان من رجال الثورة كانا يقيمان بالقاهرة وقتها، وهما: محمد الزبيري، وعبدالرحمن البيضاني، ومعهما العميد على عبدالخبير، من مكتب المشير عبدالحكيم عامر، وقائد الجناح الطيار أحمد نوح.

بعدها أصدرت مصر بيانًا تحذر فيه من أي تدخل عسكري خارجي.. ومضت الأيام ليستقر موقف الثورة، ويشعر اليمنيون بالفرحة لانتهاء عهد أسرة "حميد الدين".

بدأت الكارثة بطلب قادة الثورة مساعدة عسكرية من مصر، ووصل أنور السادات الذي كان قد عُيِّن مسئولًا سياسيًّا عن اليمن في الأسبوع الثاني من أكتوبر، حيث وقَّع اتفاقية دفاعٍ مشترك بين مصر واليمن.. ووصلت قبله 3 طائرات حربية وقوات من الصاعقة المصرية، ولم يكن حجمها يزيد على سرية "100 جندي"، انتهى الأمر بها إلى عدد ضخم من الضباط والجنود، وهو الأمر الذي وصفه يومًا عبدالناصر: "لقد أرسلت سرية في أول الأمر إلى اليمن، واضطُررت لتعزيزها بسبعين ألف جندي".

هذا القول يوضح أن عبدالناصر نفسه لم يكن في نيته، منذ البداية، أن يأخذ الأمر شكل الغزو العام لجميع أراضي اليمن، هذا الأمر الذي فسره الملك سعود، ملك السعودية، على أنه خطوة أولى على طريق غزو السعودية، والسيطرة على منابع البترول بها، وفسره الملك حسين بأنه تمهيد لطرده من العرش عن طريق تشجيع شعب الأردن للقيام بخطوة مماثلة لما حدث في اليمن.

وكان الشعور نفسه يسيطر على كل الأمراء والسلاطين في أنحاء شبه الجزيرة، وغذى هذا الشعور كلٌّ من الولايات المتحدة بريطانيا التي كانت تخشى من زحف الثورة من اليمن في الشمال إلى القواعد التي كانت تحتلها في عدن والجنوب.

التدخلُ المصريُّ في اليمن بقصد حمايتها وتأمينها دفاعيًّا ألَّب على مصر العديد من الدول الغربية والعربية، وجمعها في معسكر واحد، هو المعسكر الذي خطط لمؤامرة عدوان 1967، الذي مثَّل عدوانًا ثلاثيًّا آخر تواطأت فيه أمريكا وإنجلترا مع إسرائيل.. باختصار نكسة 67 بدأت من صنعاء.

دور بعض البلاد العربية كان أكثر دهاء، ثأرًا وانتقامًا من عبدالناصر الذي طعن في شرف بعض حكامه، ويرى "كمال حسن على" أن الوجود المصري في اليمن لم يكن فقط لحماية الثورة، وإنما أيضًا أسهم في نقل اليمن من غياهب القرون الوسطى إلى الانفتاح على التطور الحاصل في العالم في القرن العشرين.. كما يروي الكثير من بطولات الضباط والجنود والقادة، أمثال عبدالمحسن كامل مرتجي، وحتى الأطباء.. كعادة المصريين في كل العصور.
الجريدة الرسمية