رئيس التحرير
عصام كامل

دير المحرق.. «الدين لله والعلاج للجميع».. أطباء مسلمون يديرون «العذراء الحنون» أول مركز لرعاية مرضى الأورام.. حكايات من غرف مرضى السرطان.. و«مينا» أسرته احتجزته في غرفة ي

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

عينان عنوان للألم الساكن في جسده، لا يتذكر آخر مرة ضحك فيها، أو راودته ابتسامة لشخص آخر، أو حتى لنفسه، المرض توطن في جسده النحيل، فمحى الثوانى التي زارت فيها السعادة شفتيه.

“مينا” شاب في الثلاثينيات من عمره، طرق المرض أبواب جسده مبكرا، الحياة والأهل اجتمعا ضده، تسابقا على تحقيق معدل أعلى من الألم في روحه قبل جسده، فيقول: “الموت عرف طريقى بدري.. انتظر الرحيل كل دقيقة، قساوة الأهل كانت أشد وجعا من المرض اللعين نفسه”. أسرة “مينا” احتجزته في مكان مخصص لـ”البهائم”، بعد أن أصابه مرض “السرطان”، جعلته يواجه الموت بدعوى أن الموت قادم لا محالة :”حطونى في حوش البهائم وأغلقوا الباب خلفهم، قالولى لما تموت هنيجى ندفنك.. إذا كنت كده كده ميت”.

“مركز العذراء الحنون بالمحرق”، لافتة خشبية تواجهك فور الوصول إلى بوابة المركز في دير المحرق، خلف الباب حكايات وروايات عن “مرض الموت”، أو كما هو متعارف عليه “السرطان”، المركز تخصص في علاج هذه النوعية من المرض، ليكون أول مركز متخصص لعلاج “الأورام”.

الطابق الثاني، أنشئت به كنيسة وخصص للصلاة، يحرص المرضى وأسرهم على الصلاة بها أسبوعيا، بجانب اللقاء الأسبوعى الذي يقوده الراهب القس يوحنا المحرقى رئيس المركز.

رحلة الوصول
في إحدى غرف مركز “العذراء الحنونة”، بمدينة أسيوط، يرقد “مينا” هادئا، كما كانت حياته دائما، ويروى لحظات وصوله للمركز: “القائمين على المركز عرفوا بحالتى واللى جرالى طلبوا من أسرتى إنهم يودعونى في المركز، ووافقوا بعد إصرار من الإدارة”، وهناك يتلقى العلاج على أيدى متخصصين.

تنتشر الغرف المطلة على ساحة مساحتها ليست بالقليلة، عشرات المرضى يرقدون في هدوء، يتابعهم ويشرف على علاجهم أطباء متخصصون، لا يعترفون بالدين في غرفة العلاج، أطباء مسلمون يديرون مركزا للعذراء التابع لدير المحرق بمحافظة أسيوط.

المريض أولًا
يقول الدكتور خالد محمد رزق، أستاذ جراحة الأورام بمعهد الأورام في أسيوط، والمشرف بمركز “العذراء الحنونة”: هدفنا الأول هو المريض، لا يقف الدين عائقا أمام تقديم خدمة وعلاج للمرضي، فشعارنا “الإنسان أولا”، يتعامل “رزق” مع المركز منذ 5 سنوات، ويرى أن للمركز طبيعة خاصة جاءت من طبيعة المرضى المعنى بعلاجهم، وهم “مرضى السرطان”، المريض في المركز يتلقى عناية كاملة، سواء قبل العملية الجراحية أو بعدها.

“أول مركز خاص لعلاج الأورام”.. هكذا وصف “رزق” مركز “العذراء الحنونة”، مشيدا بالرعاية التي يتلقاها المريض، تميزه عن المراكز الحكومية، بجانب حرص المركز على العبور بالمريض إلى مرحلة بر الأمان.

“رزق” لا يتحصل على مقابل مادى نظير تقديمه خدمات لـ”العذراء الحنون”، مكتفيا بما يقدمه المريض من شكر:”كفاية المريض يقولك شكرا على علاجه.. وكفاية فرحة أهله بعد شفائه”.

يسعد “رزق” بالعلاقة الأسرية التي تجمع المرضى والأطباء: “العلاقة بين أطباء المركز والمرضى ليست علاقة علاجية فقط.. بل يغلب عليها طابع الأسرة، وهذا نظرا لطول فترة العلاج التي يحتاجها مرضى السرطان”.

مسلم في الدير
لم يجد “رزق” غضاضة في العمل بمركز “العذراء الحنون”، التابع لدير المحرق، باعتباره “مسلم”: “لا أنظر لكون المريض مسلما أو مسيحيا.. هو في النهاية حالة مرضية تحتاج لعلاج”، ولم يتعرض “رزق” للوم ولا مرة لعمله في المركز: “لا أعرف الفرق بين المسلم والمسيحي.. فكلنا إخوة”.

“العذرا الحنونة” مركز خاص لعلاج الأورام، لا يقف عند تقديم الخدمة العلاجية، بل يتخطى إلى تقديم الرعاية الروحية والنفسية، من خلال مجموعة من الخدام المدربين على التعامل مع مريض الأورام، يقول الراهب القس يوحنا المحرقي، المسئول عن المركز،: “إن تصالح المريض مع نفسه ومع الله هو أهم أغراض المركز”.

“توفيت أمى بمرض السرطان”.. من هنا بدأ القس يوحنا المحرقى التفكير في إنشاء مركز لعلاج الأورام بالمجان: “فكرة المركز بدأت في 2010 عندما كنت مرافقا لوالدتى المريضة بالورم في أحد مستشفيات الولايات المتحدة، وفى أمريكا شاهدت طريقة مختلفة لعلاج الأورام، حلمت بتطبيقها في مصر، وعندما توفيت والدتى بهذا المرض، فكرت في إنشاء المركز”.

“نحلم بمركز على الطريقة الأمريكية”.. حلم القس يوحنا، أن يطبق طريقة العلاج في المركز على الطريقة الأمريكية، التي تضع نفسية الإنسان في المقام الأول:” المركز بدأ بروف فوق سطح مستشفى سانت ماريا، خصصه الأنبا الراحل ساويرس، رئيس دير المحرق، بعد ثورة يناير، واستعنا بأطباء متخصصين من القاهرة، وكنا بندور على الحالات المصابة، وننقلها للمركز، خاصة في بداية العمل، لأن المركز كان غير معروف”.

وروى القس يوحنا: “جبنا حالة من معهد الأورام بعد أن أنفق والدها ما يملك، وعرضنا عليه تقديم العلاج إليها بالكامل، مجانا”، وحرص القس يوحنا على إنشاء كنيسة في المركز، لتقديم الرعاية الروحية للمرضى، خاصة أنها تخدم أقباطا فقط، :”هدفنا أن يتصالح الإنسان مع الله ومع نفسه”، فالعلاج الروحى والنفسى أهم أهداف المركز، وأن يدرك الإنسان أن المرض ليس عقاب من الله، بل إن الله يحبه في جميع أحواله.

داخل غرفة العناية ترقد “مريم” فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها، أجرت منذ أيام جراحة دقيقة، رفضت الفتاة صاحبة البشرة الـ”سمراء”، الزواج، قابلة أن تظل تحت قدمى “أمها” التي تعانى من أمراض مزمنة، لخدمتها.

الفتاة صاحبة الخمسة وعشرين عاما، عملت قبل إصابتها بالمرض في إحدى الشركات الخاصة بمدينة أسيوط، لتتكفل بعلاج والدتها، قبل أن يصيبها المرض اللعين، الذي عطل مسيرة العطاء التي سارتها طواعية، وتركها طريحة الفراش تقول مريم :” بحلم أقوم من السرير عشان خدمة أمي.. وكمان أخدم في المركز اللى قدملى كل سبل الراحة، وتكفل بمصروفات العلاج”.

الخدمة بإخلاص
اتفق الدكتور صلاح مبروك خلاف، استشارى علاج الأورام بجامعة أسيوط، والمشرف على المركز، مع “مريم”، في نوعية الخدمة التي يقدمها المركز، :”يخدم المرضى بإخلاص، وتتنوع الخدمة بين الرعاية الصحية والنفسية والروحية.. وهذا ما يحتاجه مريض السرطان”.

انضم الدكتور صلاح لمركز “العذراء الحنونة”، منذ 5 سنوات، وكان شرطة للانضمام التعرف على ما يقدمه المركز من خدمات علاجية للمرضى : “لما شفت العمل بإخلاص حبيت أنى اشتغل معاهم، لكن مريض السرطان يحتاج الدعم المختلف ما بين مادى ومعنوي، وهو ما يتوفر في العذراء الحنونة، خاصة الأطباء الذين يتمتعون بالخبرة العالية”.

وروى “صلاح” قصة فتاة أصيبت في المخ والأنسجة الضامة، وأصر خطيبها على استكمال المسيرة معها، وبعد 4 سنوات متواصلة من العلاج، تحمل خطيبها فيها معاناة المرض اللعين، استكملت علاجها، وعادت لطبيعتها، بعد أن طردت المرض من جسدها بسند ودعم من الله أولا ثم خطيبها، وتزوجت الفتاة منذ 4 أشهر فقط.

“صلاح” يعمل في المركز بأجر رمزي، وأحيانا يتبرع براتبه، بل ويقدم مساعدات للمرضى والإدارة: “المريض حالة تحتاج تكاتف الجميع وتواجدهم حوله ليستكمل علاجه”.

المرض لعين ينهش ويحفر بأظافره في جسد الإنسان، لا يفرق بين شاب وعجوز، غنى أو فقير، الكل أمام المرض سواسية، يظلم الروح قبل أن ينطفئ نور العينين.

“ياسمين” فتاة كانت تحلم بمستقبل سعيد برفقة الشاب الذي اختاره قلبها قبل عقلها، توافقت معه، قبل أن تتوافق عليه الأسرة، عاشت حياة سعيدة، استعدت بعد خطبتها لإتمام حفل الزفاف، تخيلت “عش الزوجية”، رسمته مع خطيبها فوق رمال البحر، لونت غرفه في أحلامها، احتضنت الحياة والفرحة، لكنها انفلتت منها سريعا، وتحولت الحياة المليئة بالبهجة إلى كابوس، فها هو الموت ينتظر على “الباب”.

قبل أشهر معدودات من إتمام حفل الزفاف، زارها ضيف “خبيث”، توغل في جسدها دون استئذان، قطع الطريق على فرحة كانت قريبة، لكنها غادرت دون رجعة، خطيب “ياسمين”، أدار لها وجهه، بعد أن أصابها المرض “الخبيث”، وتركها وحيدة في مركز “العذراء الحنونة”: “كان نفسى أفرح”.

فوق السطوح
الدكتورة سوزان ذكرى إسكندر، مدير مركز “العذراء الحنونة”، تولت المركز منذ أن كان “فوق السطوح”، ويعمل به طبيب واحد، وإمكانياته محدودة للغاية، تروى سوزان أن المركز كان مجرد تقديم خدمة للمريض، ولم تتخيل أن يصبح مركزا متخصصا لعلاج الأورام.

تؤكد “ذكري”، أن المركز نقلة في خدمة علاج مرضى الأورام، خاصة أنه أول مركز خاص لعلاج الأورام، بما فيه من أطباء وتمريض متخصص، المعوقات لم تغيب عن سوزان :”الدعم المادى كان أول المشكلات التي قابلت المركز، لكن هناك مساهمات”.
اتفقت “ذكري” مع القس يوحنا، في أن هدف المركز هو تصالح المريض مع الله، خاصة مرضى المناطق النائية التي لا يتيسر لها العلاج، مع توفير خدمة الإقامة بالمركز وتوفير خدام مرافقين لإجراء الكشف الطبي.

“المركز قائم على التبرعات”.. هكذا لخصت “ذكري” قضية التمويل، مشيرة إلى أنها كانت تتمنى أن يخدم المركز كل أبناء الوطن الواحد، لكن الإمكانيات لا تسعفنا.

في النهاية يتمنى القس يوحنا رئيس المركز، أن يصبح المركز مستشفى كبيرا، يخدم جميع أبناء الوطن، مشيرا إلى أن العمل كان لن يكتمل إلا بموافقة الراحل الأنبا ساويرس، رئيس دير المحرق السابق، ودعم الأنبا بيجول، رئيس الدير الحالي.

"نقلا عن العدد الورقي.."
الجريدة الرسمية