رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

الحس السياسي


واضح أن الأزمة في هذا البلد تكمن في إدارة الأزمة ذاتها، ذلك أن كثيرًا من الإجراءات الاقتصادية وبعض القرارات السياسية تفتقد الحس السياسي رغم صحتها، ولكنها كانت تحتاج للتمهيد والشرح لتأهيل الشعب لها، غير أن إصرار الحكومة على القرارات المفاجئة هي نقص في الحس السياسي أكثر منها أيديولوجية للإدارة والحكم؛ لأن معظم خبراء الإدارة يعرفون أن توقيت القرار أهم من القرار ذاته، وربما يكون الافتقاد للحس الاجتماعي أخطر من غياب الحس السياسي في معظم القرارات الاقتصادية، وخاصة بعد قرار التعويم، وتلك هي الفجوة الموجودة لبعض التنفيذيين، وعدم حنكتهم في إدارة اللعبة السياسية لاحتواء الشارع، وخاصة في الفترات الانتقالية عندما تتوه البوصلة في معركة تثبيت مؤسسات الدولة..


وربما كان تأخر مبارك في قراراته هو ما أدى لتفاقم الأمور أيام يناير ٢٠١١، بمعنى أن قرارًا واحدًا مما اتخذه من قرارات بعد ٢٥ يناير كان كفيلًا بمواجهة الفوضى وإفشال المؤامرة بل وصنع تماثيل له لو أنه مثلا أقال حبيب العادلي، أو حل البرلمان، أو عدل الدستور، أو أعلن عدم خوضه هو وابنه للانتخابات الرئاسية، ولكنه اتخذ كل هذه القرارات في الوقت الضائع، ولكن المصيبة كانت في تغليب الحس الأمني على الحس السياسي، وهو ما دفعت فيه مصر والمصريون كثيرًا من مقدراتهم ومستقبلهم.

وربما يعبر البعض عن تلك القضية بقولهم إننا في أمس الحاجة لطريقة محترفة في الإخراج السياسي، وبالتالي فمن المهم إعادة تشكيل المطبخ السياسي بخبراء وعلماء لديهم قدرة على الإبداع وخلق البدائل المقبولة للأزمات، تراعي الأوضاع المزاج العام الداخلي والمواثيق الدولية، فيما يخص الحريات والمساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات، وذلك في ظل ترصد واضح من الخارج، ونمو الوعي السياسي في الداخل، بعد ماحدث في يناير ويوليو..

وكان من المفترض الاستفادة من الدروس الكثيرة التي خلفتها تلك الأحداث طوال سبع سنين، حتى لا نكرر الأخطاء ذاتها، ولكن ما يحدث يوميًا يؤكد أننا لم نتعلم شيئًا مما حدث، وخذ مثلا الدعوة لمقاطعة الــBbc تنقصها الحس السياسي والإعلامي معًا؛ لأن الانكفاء على الذات هو حصار ذاتي وعزلة اختيارية، بل إن المواجهة والرد المنطقي الحقيقي هو أسهل وأرخص طريق لدحض الشائعات والمؤامرات..

ثم إن الشعوب لديها قوة فرز فطرية، ولديها القدرة على الاختيار والانحياز للحق والحقيقية، وفِي نفس الوقت صدر قرار النائب العام بطريقة غامضة تطلب من النيابة في دوائرها متابعة قوى الشر، وما تنشره على وسائل التواصل الاجتماعي، وضبط ما يبث منها ويصدر منها عمدًا من أخبار أو بيانات أو شائعات كاذبة من شأنها تكدير الأمن العام؟ واتخاذ ما يلزم حيالها من إجراءات جنائية، ورغم سلامة القصد، وخاصة في زمن الحرب فلم يكن هناك ما يستدعي ذلك، خاصة في ظل إجراءات الطوارئ وقوانين النشر ومواد الدستور، وفِي ظل وجود ثلاث هيئات لمتابعة الاعلام والاعلاميين، وفِي ظل وجود نقابات للصحفيين والإعلاميين..

لأن مثل تلك القرارات تعطي الفرصة لأهل الشر في تشوية صورة مصر خارجيًا، والزعم أن هناك استبدادًا وتضييقًا على حرية التعبير، وأن دولة الخوف عادت هذه المرة بمظلة تشريعية وتلك أكاذيب، ثم إنه من المستحيل متابعة ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، وهي حسابات بالملايين وتحتاج إلى جيوش في مراقبتها، ومتابعة ما يبث من خلالها من آراء واجتهادات شخصية فيما يسمى بإعلام المواطن، بعد أن أفقد الإعلام غير المهني الناس الثقة في النظام والسلطة، وبعد أن أصبح من المعلوم بالضرورة للكل شبه السيطرة للدولة على مختلف أجهزة الإعلام وإداراتها بطرق غير مهنية وغير علمية وغير سياسية، وفِي ظني أن الشفافية والرد السريع هما أرخص وسائل التصدي لفتن وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المواقع المشبوهة.

وقد بات من المهم الآن شرح وتحديد مصطلح أهل الشر، فقد كان مفهومًا إنهم الإرهابيون وجماعة الإخوان، ولكن فيما يبدو فإن البعض توسع في تحديده وأصبح هو الأيديولوجية الرسمية بصورة تشبه الدونكوشيتيه، تلك الشخصية التي انفصلت عن الواقع ويتوهم أعداء له من الخيال بنفس القدر الذي يتوهم بطولات من الخيال، فعاش يحارب طواحين الهواء، ويركب فرسًا هزيلا، وسلاحًا قديمًا ظنًا منه أن تلك الطواحين هي شياطين ضخمة ذات أذرع طويلة.

أقول ذلك بعد ظاهرة الانسحاب الشعبي من العمل السياسي، والانزواء عن المشاركة السياسية والحزبية، مما خلق حالة من الفراغ السياسي، وغلق المدارس التي تصنع الكوادر القيادية والسياسية وخاصة من الشباب المؤهلين ليس الآن ولكن للسنوات المقبلة، ولذا ارتفعت بعض الأصوات الناضجة تطالب بتأهيل عدد من الكوادر السياسية وإعدادهم لانتخابات الرئاسة في عام ٢٠٢٢ من الآن، بشرط تنمية الحس السياسي لديهم، وخلق مجموعات مؤهلة للتسويق السياسي لمصر والمصريين، بدلا من الاكتفاء برد الفعل، والرد على ما يثيره الآخرون؛ لأن السياسة الناضجة هي من تمتلك المبادأة والفعل وليس رد الفعل.
Advertisements
الجريدة الرسمية