رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

كواليس يناير الإعلامية


بدأت فوضى يناير يوم الثلاثاء ٢٥ يناير ٢٠١١، وعلى الفور وجدت من يسميها الثورة الشعبية، ثم ثورة اللوتس، ثم الثورة البيضاء، وبينما كان الحدث مفاجئًا لمعظم الإعلام المصري، مثلما فاجأ أركان الدولة المصرية، كان الإعلام الخارجي مستعدًا بل كأنه حصل على دورات تدريبية في الحشد والتهييج وابتكار الشعارات والمصطلحات ذات الدلالة، كما فعل فيما عرف بموقعة الجمل، ومصطلحات جمعة الغضب، وجمعة قندهار، والنشطاء، والائتلافات، والقوائم السوداء، والمنصات، والتظاهرات المليونية، وجمعة الرحيل، وجمعة الزحف.


وكلها كانت مصطلحات يتم صكها بحرفية، ويتم تمريرها لإعلام أبله يرددها كالببغاوات، لتصبح الأكاذيب حقائق بالإلحاح في ترديدها دون التوقف مرة واحدة لفحصها، وحتى النفر القليل من الإعلاميين الذين تنبهوا مبكرًا للكارثة، وحذروا منها تم مواجهتهم سريعًا ببيانات وتشويه ومحاولات لاغتيال سمعتهم ووضعهم على القوائم السوداء، بل وصل الأمر إلى حد تهديدهم بالاغتيال، ومحاصرتهم..

وللأسف وجدت تلك المخازي من بقية الإعلاميين من يروج لها وينشرها، بل وصل الأمر إلى حد أن زملاء القناة الواحدة كانوا يذهبون لميدان التحرير، ويحرضون المتظاهرين على زملائهم الذين أخذوا موقفًا من الفوضى، ومن حجم التمويل الغامض ومن بعض الأحداث الدالة كحرق أقسام الشرطة، وسيارات القتل الدبلوماسية التابعة للسفارة الأمريكية..

ومن المعروف أن البطل الأول فيما حدث كان "فيس بوك وتويتر"، ومنه استقى الإعلام الكسول مواده وأخباره، على عكس المفروض أن تنقل رسائل التواصل الاجتماعي أخبارها من الإعلام التقليدي، الأمر الذي دفع السلطات لإغلاق "فيس بوك وتويتر" في يوم الأربعاء ثاني أيام يناير، وحتى ذلك اليوم استمر تجاهل الحكومة والقنوات للأحداث، حتى إذا ما اشتدت التظاهرات ووقع سبعة قتلى، وامتدت الفوضى لعدد كبير من المحافظات، مما أدى إلى قطع الإنترنت عن مصر كلها..

وتوقف الاتصالات للتليفونات المحمولة فخرج مئات الآلاف من الغاضبين يوم الجمعة، فيما عرف وقتها بجمعة الغضب، وبات أن الأمور خرجت عن سيطرة السلطة بعد تدمير مقار الحزب الوطني في عدد كبير من المحافظات، وحرق عدد أكبر من أقسام الشرطة، وحتى عندما خرج مبارك في يوم السبت ٢٩ يناير، بعد خمسة أيام من الصمت الغريب، ووعد بحل الحكومة والبرلمان مما شجع المتظاهرين على رفع سقف المطالب، نتيجة لتأخر رد الفعل الرسمي على احتواء التظاهرات في الوقت المناسب..

وتزامن ذلك مع إعلان حظر التجول نتيجة انتشار عصابات للسرقة والنهب، وفي حالة التردي قام مبارك في اليوم الخامس بتعيين عمر سليمان نائبًا له، ونزل الجيش لسد حالة الفراغ بعد انسحاب قوات الشرطة، واستمرت الفوضى في التصعيد، حتى أعلن مبارك التنحي يوم الجمعة ١١ فبراير، وأصدر الجيش بيانًا يتعهد فيه بإجراء تعديلات دستورية، وانتخابات حرة، وإنهاء حالة الطوارئ..

وبينما كانت مصر تتغير وتسير الأحداث فيها بسرعة جنونية، ظل الإعلام على رتابته وخموله، ووقف حائرًا بين ولائه القديم للنظام الساقط والأوضاع الجديدة، وكانت الكلمة الحاسمة لأصحاب القنوات الفضائية بعد أن سقط ماسبيرو سقوطًا مروعًا في التعبير عما وقع بالبلاد، وبادر بعضهم بالاتصال بالإخوان ومكتب الإرشاد يحجون للقوى الجديدة، ووصل الأمر إلى قيام أحدهم بتعيين عدد من الإخوان في قناته، وهو الذي كان ينقل مؤتمرات الحزب الوطني حصريًا، وكان يفتخر دومًا بصداقته وقربه من مبارك وعائلته، وراح يزعم أنه إخواني من بيت إخواني..

وفِي تلك المرحلة المبكرة ظهرت أربع قنوات للإخوان، وظهرت قنوات غريبة بترددات مشبوهة، أخذت اسمها من شعارات الفوضى، واتضح فيما بعد أن ممولها رجل أعمال، وظهرت صفقات بظهور قنوات كبيرة ذات تمويل ضخم من ملاك لم يعرف عنهم يومًا أي علاقة بصناعة الإعلام، وراحت تلك القنوات توظف نشطاء الميدان كإعلاميين برواتب ضخمة لغسل سمعة بعض الإعلاميين ورجال الأعمال..

وظهرت برامج متعددة بينما اختفت الإعلانات تمامًا بعد توقف الحياة الاقتصادية، وعجز المؤسسات عن دفع الرواتب، وخلال تلك الفترة صنع الإعلام المرتبك نجومًا مثل وائل غنيم وعلاء عبد الفتاح وعمرو حمزاوي وأسماء محفوظ وأحمد دومة وإسراء عبد الفتاح ووائل عباس وخالد تليمة وغيرهم، وكانوا يتنقلون بين القنوات عدة مرات في اليوم الواحد، مما أفقدهم براءتهم الثورية، وكان أن تبخروا، ولم يكن في إمكانهم التعايش مع الاستقرار فاختفوا، بعدما كان الإعلام ينافقهم بصفاقة وظل ينفخ فيهم حتى انفجروا..

وقامت "الجزيرة" ببث قناة خاصة بمصر تعمل على مدى الساعة، وأصبحت هي المتحدث الرسمي لميدان التحرير، بل الموجه الأساسي للأحداث، وكانت تدير الأنشطة برسائل مشفرة، وأصبحت هي المقر الرسمي للتأمر بقيادة الإخواني أحمد منصور، الذي ترك الدوحة واستقر في القاهرة، لمتابعة المخطط القطري للفوضى..

وإذا كان صحيحًا أن الإعلام المصري استعاد وعيه بعد قليل من أحداث يناير، فإن الصحيح أيضًا أن المال المشبوه لا يزال يحكم عمل وسلوك الكثير من المؤسسات الإعلامية، وخاصة التي ظهرت بعد يناير ومازالت الوجوه القديمة التي عملت مع مبارك ومرسي تتسيد المشهد الإعلامي، وخاصة للذين لم ينتموا لإعلام الدولة المصرية، وكانت بداياتهم وخبرتهم في الإعلام الخليجي، بل لا يزال نفس أصحاب القنوات الفضائية كما هم، ليس لهم ولاء للدولة بقدر ولائهم لمصالحهم الشخصية في توظيف الإعلام لمآربهم وغسل سمعتهم السياسية..

وبينما يظل إعلام الدولة من صحف قومية وقنوات ماسبيرو تعاني الضعف والهوان تنمو القنوات والمواقع والصحف الخاصة بطرق شيطانية، وربما يكون كل ما سبق شيئًا والتحولات المهينة والتلون المهني والسياسي للوسائل الإعلامية والقائمين عليها موضوع آخر، يدعو للرثاء أكثر مما يدعو للسخرية من تبدلات للمواقف والتوجهات السياسية، بل الموقف من الثوابت المصرية كالجيش والشرطة والقضاء والأزهر والكنيسة المصرية، فقد نال كل هذه المؤسسات كل ما نال الوطن من إعلام مرتبك فاقد البوصلة والهوية وربما الانتماء بحكم تمويله الغامض، وتلك قضية أخرى.
Advertisements
الجريدة الرسمية