رئيس التحرير
عصام كامل

يوميات من دفتر صلاح عيسى.. انفرد بالحصول على أوراق قضية ريا وسكينة.. لعب دورا تاريخيا في إسقاط قانون اغتيال الصحافة.. دخل مع سجانه «شمس بدران» في زنزانة واحدة.. ومارس عملا نقابيا قويا خلال ع

صلاح عيسى
صلاح عيسى

«صباح الخير يا جميل».. يقولها لأمن الجريدة القابعين أمام البوابات، يسير بعدها بخطوات هادئة في ممر طويل داخل حديقة كلاسيكية للمركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، حتى يصل في نهايته إلى مبنى أبيض على طراز الخمسينيات من القرن المنصرم، وهناك يكررها أيضًا لتلامذته من صغار الصحفيين: «صباح الخير يا جميل».


يطمئن على قطة لازمت المكان، ويتساءل: هل أطعمها أحد؟ يصعد ببطء إلى الطابق الثانى حيث مكتبه الذي لم يغلق بابه أبدا.. صلاح عيسى، المؤرخ والصحفى الكبير، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الثقافية، والأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة سابقًا، الذي وافته المنية، مساء الإثنين ٢٥ ديسمبر ٢٠١٧، بمستشفى المعادى العسكري، إثر تدهور حالته الصحية، عن عمرٍ ناهز الـ٧٨، قضى منها نحو ٦٠ عامًا بين النضال والاعتقال والصحافة والتأريخ.

أوراق من دفتر «صلاح أفندي» يذكرها تلامذته وأصدقاؤه، يفصحون عن بعض سطورها، ما بين يوميات «الجورنالجي» في جريدة القاهرة، ومن قبلها النقابى المخضرم، ومعاركه لأجل حرية الصحافة وحقوق الصحفيين والمقاتل في معركة الدفاع عن ذاكرة الوطن.

باحث في أوضاع الريف
صلاح عيسى، من الأقلام الكبيرة التي خرجت من الفضاء المصري، للانضمام إلى السرب الكبير الذي ملأ الأفق العربى طوال عقود.
بدأ حياته باحثًا في أوضاع الريف، ولم يتخل يومًا عن شكاوى مصر، حتى سخريته الحادة استخدمها في إبراز مآسى المصريين، والبحث عن حلول لأزماتهم.

بلغت المأساة المضحكة ذروتها عندما أدخل السجن ١٩٨١م فوجد نفسه إلى جوار سجانه السابق، الوزير شمس بدران، وزير الحربية في عهد عبدالناصر، لم يحاول الشماتة به، بل قابل الإساءة بالإحسان، وعرض عليه أن يشاركه حصته من مياه الشرب.

عرفته من الكتب
سهى رجب، سكرتير تحرير جريدة القاهرة، والتي لازمت «عيسى» ما يزيد على ١٢ عامًا، كان لها بمثابة المعلم والأب الحنون الداعم لخطواتها وأحلامها، تقول: «عرفته في سن صغيرة عندما قرأت “الثورة العرابية” في مكتبة المدرسة، ارتبطت روحى به، تخيلته عظيمًا عملاقًا، تعرفت عليه أكثر من خلال كتاباته وإصداراته، لم أكن أتخيل يومًا أن أكون مقربة لـ«بابا صلاح».

مرت الأعوام وتخرجت في كلية الإعلام، والتحقت بأكثر من مؤسسة صحفية أجنبية، وكان لا يزال حُلم العمل تحت قيادته يراودني، إلى أن جاء عام ٢٠٠٥، وقررت الذهاب إلى مكتبه.. لم أنتظر سوى دقيقتين.. وكنت أمامه وداخل مكتبه، كان بمثابة الحلم.. وبعد فترة قصيرة من التعاون أخبرنى هاتفيًا أنه يريدنى لأمرٍ ما، اتجهت إليه فأبلغنى أننى من اليوم سكرتير تحرير جريدة القاهرة، خبر وقع عليَّ كالصاعقة، فقلت: “أنا أصغر من تحمل هذه المسئولية”، وكان رده: “إحنا هنتعلم مع بعض”.

«النسكافيه بلاك»
يأتى إلى مكتبه في العاشرة صباحًا، يطمئن على أحوال الجميع، ويحضر له الساعى مشروبه المقدس “النسكافيه بلاك بدون سكر”، ويطالع هذه الصحف المحلية والعربية، وبعض الصحف العالمية، لا تفوته التفاصيل؛ ما بين إخراج هذه الإصدارات أو محتواها الصحفى وعناوينها، بعدها يناقش مع الصحفيين الملفات والقضايا التي سيتطرق إليها العدد الجديد من جريدة القاهرة التي تصدر كل ثلاثاء.

بابه لم يغلق أبدًا أمام من يقصده، وتحديدًا شباب الصحفيين، فكان يسأل عن الفئة العمرية للضيف إذا كان شابًّا، فله الأفضلية في الدخول، أحيانًا كان من يعمل معه يلفت نظره؛ لأنه كان يجلس لساعات طويلة يستمع لمشكلات وثرثرة صغار الصحفيين، إلا أنه كان يرد: “دخَّلوهم.. لازم نديهم ثقة في نفسهم”.

ينفع كده يا جميل
لم تتذكر «سهى» أنه غضب يومًا أو نهر صحفيًا أخطأ، بل كان راقيًا حتى في لحظات ضيقه، وأقصى ما يعبر عنه «ينفع كده يا جميل؟!».. عبارة يقف أمامها الجميع صامتًا، فكيف يقابل هذا العملاق الخطأ بهذه العبارة الودودة؟!، كانت المرة الوحيدة التي انفعل فيها “أفوكاتو صاحبة الجلالة”، عندما شاهد القطة التي ارتبطت بالمكان تلهث من العطش، فهو مرتبط بالحيوانات بشكل عجيب، وتحديدًا القطط، كانت لديه قطة في منزله، يدللها، ويعتنى بها، كما لو كانت ابنته الصغيرة.

ملف في أمن الدولة
اليسارى المقرب، لم يكن حديثًا عابرًا بل كان استثنائيًا، ربما لم ينصفه الماضي، ولعلَّ المستقبل يحمل له المزيد من الاحتفاء والتكريم.. سنوات عجاف قضاها بين وحشة سجون عبد الناصر والسادات.. كان من القلة التي لديها ملفٌّ متخمٌ في مباحث أمن الدولة، وكان يتفاخر بهذا السجل، واعتبر أن تجربة السجن خط مهم في مسيرته، فهى من ناحية مكنته من تأسيس علاقات وطيدة مع كل أجيال العمل الوطني، ومن ناحية أخرى أعطته الوقت ليؤلف الكتب التي لم يجد الوقت لإنجازها.

شقة العجوزة
انضم صلاح عيسى للتنظيم السياسي «وحدة الشيوعيين»، يقول سيد محمود، رئيس تحرير جريدة القاهرة السابق، وأحد المقربين من عيسى: “كان معظم أعضاء هذا التنظيم من رواد شقة العجوزة، التي تمثل بحضورها الكبير في مسيرة هذا الجيل، علامة مميزة، وكان روادها خلطة جامعة لتشكيليين وأدباء أفذاذ ونقاد لامعين، من أمثال عز الدين نجيب، وجميل شفيق، وإبراهيم الدسوقى فهمي، وسيد خميس، وسيد حجاب، وآدم حنين، وعلاء الديب.. وكل هؤلاء كانوا يلتقون في مقهى “إيزافتش”، الذي خلد الأبنودى جرسونه الشهير “عم جمعة”، في قصيدة معروفة”.

يستطرد: “كانوا كلهم يلتفون حول الناقد الأردنى “غالب هلسا” والناقد المصرى إبراهيم فتحي، ومعهم خليل كلفت، وجمال الغيطانى، ويحيى الطاهر عبدالله، وصبرى حافظ، ومحمد إبراهيم مبروك، ومحمد عبد الرسول، الذي ارتبط بصداقة مع صلاح عيسى، بحكم عملهما معا في وزارة الشئون الاجتماعية.. الجميع كان منشغلًا وقتها بمؤلفات ماركسية رائجة، ويقومون بنسخها، إلى جانب التطرق للأوضاع السياسية في مصر، ويوم أن نشرت “الأهرام” قرار حل الحزب الشيوعى المصرى في أبريل من عام 1965، صرخ أحدهم: «سأقاضى الحزب، أين ذهبت اشتراكاتي؟ هل ستؤول للاتحاد الاشتراكي؟ !”.

يوميات شيوعى في المعتقل
سعيد الحظ هو من يسجن مع هذا الساخر البشوش.. يقول الدكتور أحمد الخميسي، أحد رفاق صلاح عيسى في فترة الاعتقال الثانية ١٩٦٨م بليمان طرة والذي قضى فيه عامين: “كان صلاح شجاعًا وجميلًا وقويًا، يشيع التفاؤل بيننا بضحكاته وإنسانيته في الأماسى حين نجتمع حول البُرش المحشو قشًا، لنتذكر فيلمًا، أو نستمع لقصة كتبها زميل”.

الزنزانة 14
وبين قضبان الزنزانة 14 في سجن ملحق مزرعة طرة، التقى صلاح عيسى بالعديد من وجوه العمل الوطنى على خلفية اعتقالات سبتمبر، أبرزهم فتحى رضوان، يروى «عيسى» لسيد محمود أيضا، قصة دالة على صلابة هذا الرجل، الذي رفض أن يفتش تفتيشًا ذاتيًا في السجن، لأن الضابط المكلف جاء بحثًا عن قلم تم تهريبه لهؤلاء المشاغبين.

في السجن تولى صلاح عيسى مسئولية الإعاشة، مسئولية تحملها عن زملاء الزنزانة؛ فؤاد سراج الدين، رئيس حزب الوفد آنذاك، وعبد السلام الزيات، نائب رئيس الوزراء السابق في عهد السادات، خلال “الحبسة” قيَّم صلاح عيسى تجربة حزب الوفد في الحركة الوطنية، مستغلًا وجود فؤاد سراح الدين، حيث نشأت بينهما صداقة رغم اختلافهما الأيديولوجي، وبالفعل أصدر كتاب “محاكمة فؤاد سراج الدين باشا”.

النكسة.. النقطة الفارقة
“لم أجد مهربًا من الأحزان التي غزت قلوبنا والمرارة التي ملأت حلوقنا إلا بالعودة إن تاريخ الوطن، اقرأ عنه وأكتب فيه، محاولا أن أنشِّط الذاكرة الوطنية، كى أتذكر وأذكِّر غيري، بأن ما حدث في ١٩٦٧ ليس محاق التاريخ، فلا هي أولى الهزائم، ولن تكون آخرها، المهم أن الوطن ظل قادرًا على امتداد تاريخه على أن يواصل مسيرته في الطريق إلى غد أكثر عدلا وحرية».

هكذا آزر نفسه ووطنه عقب هزيمة ١٩٦٧م، أزال آثار العدوان فكريًا، ووجد أرضا تصلح لأن تقف عليها وتؤسس لخطابها البديل.
أزمة فجرت بداخله، المؤرخ والحافظ لذاكرة هذا الوطن، فكانت «الثورة العرابية، حكايات من مصر، حكايات من دفتر الوطن، ومثقفون وعسكر، رجال ريا وسكينة، ودستور في صندوق القمامة”...إلخ.

رجال ريا وسكينة
دق هاتف منزل صلاح عيسى، قبل ربع قرن، كان ينشر حينها مؤلفه «رجال ريا وسكينة» في إحدى المجلات الأسبوعية، وإذا به اللواء المتقاعد إبراهيم إبراهيم حمدي، نجل الرائد إبراهيم حمدي، الذي طارد العصابة ونجح في القبض على ريا وسكينة، مكالمة يحكيها صلاح عيسى نفسه، قال: «عاتبنى اللواء وأخبرنى أن ما أكتبه فيه تجنٍ على الحقيقة، لاسيما أننى أشير إلى أن الشرطة اكتشفت العصابة بالصدفة!، وبهذا أتجاهل الدور المحورى الذي لعبه والده في القبض عليهم».

كان «عيسى» ذكيًا وصاحب حجة، فرد عليه: وهل والدك هو من حكى لك هذه القصة، فأجاب أن والده توفى وهو في سن الثالثة من عمره، إلا أنه سمع هذه الوقائع من أسرته، التي ربما تأثرت كغيرها من المصريين بالفيلم الذي أخرجه صلاح أبوسيف، والصورة السنيمائية التي ظهر فيها إبراهيم حمدي، ضابط قسم اللبان بالإسكندرية، والتي جسدها الراحل أنور وجدي.

ليس معلومًا للجميع أن صلاح عيسى، هو الوحيد الذي حصل على أوراق الجناية رقم ٢٣ لسنة ١٩٢٠، وهى الوثيقة الوحيدة التي يعتمد عليها في التأريخ لعصابة ريا وسكينة، احتوت على محاضر قسم شرطة اللبان وتحقيقات النيابة ووقائع المحاكمة وحيثيات الحكم، بل يعد كتابه هو الوثيقة الوحيدة التي تكشف التفاصيل الحقيقية لهاتين السيدتين. فهو يرى أن التاريخ يكتبه بشر لديهم أهواء وانحيازات مسبقة تدفعهم أحيانا إلى تحريف الحقائق أو انتزاعها من سياقها لخدمة أنظمة أو جماعات.

العمل النقابى
في ثمانينيات القرن الماضي، مارس صلاح عيسى عملا نقابيًا باقتدار، من خلال عضوية مجلس نقابة الصحفيين لمدة أربع سنوات، وهى الدورة الوحيدة التي شارك فيها «عيسى» طيلة حياته، يقول يحيى قلاش، نقيب الصحفيين السابق: «كان مقرر اللجنة الثقافية حينها، التي استمدت قيمة استثنائية برئاسته، أسفرت عن مجلة “الصحفيون”، بمجهود من صلاح عيسى وعدد من الشبان الصحفيين، كانت مساحة للحوار حول حرية الصحافة والتعبير، وأصبحت جزءًا مهما من ذاكرة النقابة، وتعد وثيقة تؤرخ حال الصحافة في هذه الفترة».

الأفوكاتو
أفوكاتو صاحبة الجلالة، كان حارسًا أمينًا لخروج الصحفيين من أزمة قانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥م بانتصار حقيقي، دون الالتفاف عليهم أو خداعهم، لاسيما أن النظام حينها حاول التفاوض مع الصحفيين من باب التهدئة وتمرير القانون، وتوهم البعض أنه الحل، وكان من بينهم إبراهيم نافع وأعضاء المجلس، فوقف صلاح عيسى في الاجتماع قبل الأخير للجمعية العمومية، هو لم يتغيب عن أي اجتماع للجمعية العمومية خلال نضال الصحفيين الذي استمر ما يقرب من ١٤ شهرًا، لإسقاط قانون اغتيال الصحافة صارخًا: «الحارسات الباقيات»، وتحدث عن 10 نقاط ترفضها الجماعة الصحفية لم تزل، ولابد للجميع أن يلتف حول الحل الحقيقي.

إسقاط القانون 93
موقف صلاح عيسى، كان فارقًا في تاريخ هذه المعركة، يقول قلاش: «مجلس النقابة كله أعلن استقالته وانضم إليهم إبراهيم نافع، نقيب الصحفيين آنذاك، تحت ضغط الجمعية العمومية، وهذه الاستقالة كان لها صداها، نتج عنها مقابلة رئيس الجمهورية، للمرة الثانية، وكان من بين الحضور صلاح عيسى باعتباره نقابيًّا سابقًا، وأدت هذه الزيارة إلى إسقاط القانون 93 لسنة 1995.

قانون الصحافة الموحد
«أين اختفت قوانين الصحافة والإعلام؟!» عنوان لآخر مقالات صلاح عيسى قبل عشرة أيام من وفاته، فهو المؤمن بأن رسالته يجب أن يؤديها إلى الرمق الأخيرة، يتذكر يحيى قلاش، نقيب الصحفيين السابق، هنا أيضا مواقف انتصر فيها «عيسى» لحرية الصحافة، يقول: صلاح عيسى كان عمود الخيمة في اللجنة التشريعية للتشريعات الصحفية، وهو صاحب فكرة القانون الموحد للصحافة>

وكان يؤمن بأن الحرية جزء أساسى من الصحافة، وكان يؤكد أن المهنة تتراجع عندما تتراجع مساحة الحرية، لاسيما أن الصحافة المصرية عريقة، عمرها يزيد على أعمار دول في المنطقة العربية، فكان يضع نصب عينيه أن يصدر قانون يليق بالصحافة المصرية ومستقبلها».

سنوات الحب والنضال
الحب في حياة صلاح عيسى فصل رئيسي، منذ نحو عشر سنوات سأل حبيبته ورفيقة دربه الكاتبة الصحفية أمينة النقاش، رئيس تحرير جريدة الأهالي، ما الذي دفعها لهذه المغامرة لترتبط به؟! فأجابت دون تردد أو تفكير: إنها وجدت فيه الحبيب والأب والأخ والأستاذ والزوج الحنون، مغامرة خاضها الحبيبان بعدما رفض أهل أمينة، ارتباطها بصلاح عيسى ذلك الشيوعى “رد السجون” على حد تعبيرهم، إلا أن حبهما كان أقوى من أي رفض، فتقدم لخطبتها، وبعد يومين تقريبًا تم اعتقاله في أحداث سبتمبر 1981م.. كانت رسائل وخطابات الحبيبة اليومية وزياراتها له ما هوَّن عليه وحشة الاعتقال.

الحبيب “رد سجون”
«صلاح» كانت تلازمه عبارة يرددها لأمينة “ما تسبينيش”.. تذكرتها في أيامه الأخيرة داخل مستشفى السلام الدولي، وهمست في أذن سهى رجب، إحدى تلميذاته المقربات: «فضل طول عمره يقوللى ما تسيبنيش.. بس واضح أنه هو اللى هيسيبني»، لتذهب بعدها مسرعة إلى العناية المركزة حيث يرقد.. تستأذن الأطباء للدخول، وتهمس له بصوت خافت، ممسكة بيده:« لسه بدرى يا صلاح».. ولكن الأجل كان قد حان وصعدت الروح لبارئها في ٢٥ من ديسمبر الماضى ولكن السيرة كما يقول - أبقى من العمر.
الجريدة الرسمية