رئيس التحرير
عصام كامل

«كوارع».. مسئول كبير!

في السادس من يناير عام 1941، تم عرض فيلم (سى عمر) في دور السينما بالقاهرة، وفى أحد المشاهد البديعة يرى الجمهور أحد أبطال الفيلم يمسك بمسبحة ويتمتم بالذكر، قبل أن ينجح في منع أحد أطفال الشوارع من اللصوص الصغار من الفرار بحقيبة بطل الفيلم نجيب الريحانى أو (جابر) القروى الساذج ضحية القهر والفقر وتمسكه بالشرف، والذي سيتخلى عنه تدريجيا عندما يكتشف أن كل شريف ساذج وأبله ومقدر له الفناء بمجرد اقترابه من مجتمع القاهرة القاهر..

بالقطع يتخيل وقتها الجمهور أن هذا الرجل صالح بل مصلح، خاصة إن كان مظهرة يوحى بذلك وسلوكه الظاهرى (التجارى) يدلل على الفضيلة، لكن ما تلبث أن تصطدم بالحقيقة المرة وهى أن هذا الشخص لص محترف ونصاب خبير، أجهز تمام على مقتنيات جابر القروى المسكين.. إنه السيد (كوارع)، والذي جسد دوره بإتقان المرحوم الفنان عبد العزيز أحمد، والذي نعرف بعد ذلك أنه أحد صبيان الحرامى الأكبر المعلم (ساطور) أو صانع البهجة المرحوم عبد الفتاح القصرى، شيخ المنصر ومدير شركة النصب والسرقة والتي يسميها حسب نطقه (كوبانية).. الاسم الشيك المودرن المحرف من الكلمة الإنجليزية company !

قد ترى معى تشابها بين شخصيات هذا الفيلم والواقع الذي نحياه حاليا، ولكن للأسف (كوارع) عندنا ليس مجرد حرامى حقير (نتن) يسعى وراء سرقة شنطة ملابس، أو بعض الجنيهات لكى يعيش في إحدى المناطق العشوائية، ويحصل على مزاجة العكر من المخدرات الرديئة الرخيصة.. (كوارع) في عصرنا البائس مسئول كبير بدرجة محافظ أو وزير أو ما شابه، كما أن كوارع الحالى ( مفترى) فهو يسرق وطنا بأكمله وليس مجرد ضحية مسكينة تقع في طريقه من الريف أو من خارج القاهرة.. 

(كوارع) باشا لص بدرجة دكتواره مزيفة، كان قد كشف يوما ما عن واقعة فساد صغيرة في أحد الأقاليم حتى يثبت للجميع أنه شريف، ثم صار يتشدق بكلمة الشرف في كل مكان حتى وصل لدرجة محافظ، مع أنه شيخ منصر وأفاق وحرامى وضيع، لكنه يتشدق بكلمات ذات وقع شديد مثل الشرف ومكافحة الفساد وطبعا تحيا مصر !

(كوارع) في فيلم نجيب الريحانى دفع ضحيته لسرقة صيدلية ثم وقف يعنفه أمام الصيدلى المسروق متشدقا بكلمة الشرف، و(كوارع) المسئول الكبير كان يترأس لجنة لمكافة الفساد في محافظته ويجلس على مكتب وثير، يدعو المصورين والمراسلين الصحفيين لتسييطه وتلميعه، وتسليط الضوء على وطنيته وهو يتمتم بكلمات عن النزاهة والشرف وحب الوطن والانتماء. وفى الخلفية تبدو آيات من القرآن الكريم وبجواره علم مصر.. تحيا مصر، تحيا مصر، ثلاثية مقدسة لا يستطيع أحد أن يناقش في مضمونها وإلا تم اتهامه بالخيانة والردة وكل الموبقات والكبائر. 

هكذا يردد هو وكل (كوارع) مثله يدير حياتنا بكثير من الاستخفاف بنا وبالشرف والدين والوطن وبكل القيم ! 

(كوارع) المسئول الكبير يجد دوما شرفاء أنقياء وطنيون ينتقدون ويفضحونه ويحذرون من فساده وكوارثه حتى قبل تولي منصبه النافذ.. لكن لا حياء ولا حياة ولا ضمير لمن تنادى، دع (كوارع) يمرح ويتمكن، ثم يتحكم ويعظ بكل الفضائل التي لا يعرفها مع معلمه (ساطور) تمزيقا للوطن وتحطيما للأمل في نفوس شبابه حتى يقع يوما ما ويكون كبش فداء مناسب، أما (ساطور) الذي دفع به لهذه المكانة وتدرج به من مجرد موظف صغير في أحد المكاتب لمساعد محافظ ثم لوزير محافظ، فلا تثريب ولا لوم ولا حساب ولا محاكمة ولا حتى مساءلة.. 

ولا شيء بتاتًا عليه، ساطور الكبير لن يسقط في نهاية المطاف كما سقط ساطور الأصلى في نهاية فيلم (سى عمر).. السينما خيالها واسع وتمنحك بعض الأمل الجميل.. وربما تصور الحق ينتصر على الباطل عكس ما عهدناه في حياتنا، لن يسقط (ساطور) صانع (كوارع) وولى نعمته، ذلك لأن سى فساد يرعى ساطور وكل ساطور، ويرعى أيضا مجموعة من الكوارع الجديدة الذين يملأون حياتنا فسادا وإفسادا وحديثا جميلا عن الشرف.. الشرف!
fotuheng@gmail.com 
 

Advertisements
الجريدة الرسمية