رئيس التحرير
عصام كامل

حسن زايد يكتب: صراع الأصالة المعاصرة

حسن زايد
حسن زايد

تعد قضية النزاع بين الأصالة والمعاصرة من القضايا المهجورة على المستوى الفكري، والموجودة حية متحركة فاعلة على أرض الواقع المجتمعي في المجتمعات الإسلامية.


ذلك النزاع / الصراع الذي شهدته مصر في القرن التاسع عشر، الذي يمثل بدايات المد التنويري، والذي يحلو للبعض أن يطلق عليه المد التغريبي ـ نسبة إلى الغرب ـ وظهور الخصومة، ومظاهر الاشتباك بين التوجهين، مع بدايات القرن العشرين.

وقد كانت هناك العديد من المؤلفات، التي صدرت لمعالجة هذه المعضلة في الشخصية المصرية، ولم تنته هذه المؤلفات إلا لحلول توفيقية تلفيقية، فشلت في المزاوجة بين التراث والمعاصرة، ولم تقدم خطوة في سبيل الحل، وإن كانت قد أسهمت على نحو أو آخر، في تأخرنا خطوات. لأنها في الأصل فشلت في تشخيص الداء، ووصف ما يناسبه من دواء.

ومعظمها كان يلف ويدور حول القضية لشد الإنسان في الجهة المنشودة، دون علاج حقيقي لحالة الفصام التي تعانيها هذه الشخصية، والتي كانت لها أصداؤها في أرض الواقع. مثل تلك الكتب التي تتحدث عن الاقتصاد الإسلامي، والمحاسبة الإسلامية، والإدارة الإسلامية، وعلم النفس الإسلامي، والتي كنا حين نقرأها لا نجد فيها سوي كونها أفكارًا عصرية، تم إلباسها زيًا إسلاميًا، من باب التلفيق، والتلبيس على الناس خدمة لتوجه معين. أما كتب التنويريين فقد كانت مدفوعة بطبيعتها، ومطاردة استنادًا إلى فكرها، المضاد لفكر الدين، على المستوى النفسي على الأقل.

وقد نتج عن هذا الفصام تقسيم المجتمع إلى ثلاث فئات فكرية:
الفئة الأولى: وهي تلك الفئة التي تتبنى توجه يقتضي ترك الماضي وراء ظهورنا، بما يحمله من أعباء تراثية تثقل الأقدام، وتعيق التحرك إلى الأمام في محاولة لاهثة لمواكبة العصر. وتواجه هذه الفئة بنكران دعوتها، واتهامها بالكفر والزندقة، ومحاولة التحلل من الدين الإسلامي. وهذه الفئة تجد سندها فيما حدث في عصر النهضة الأوروبية، وعصور التنوير، حيث جري إقصاء الدين عن معترك الحياة، وحصره داخل الكنائس، وجعله فقط علاقة بين العبد وربه، لا علاقة للمجتمع به، ولا علاقة له بالمجتمع.


وهذه الدعوة تجد مقاومة، أو بعض مقاومة، من مجتمعاتنا، لأنها لا زالت تحمل في جهازها المناعي، ما يحول دون التحلل الأخلاقي، والانهيار القيمي الثقافي الحضاري، الذي تحمله بذور هذه الدعوة. فضلا عن التشكك في نوايا الدعاة لهذه الفكرة، باعتبارها دعوات مشبوهة، لا تخلو من فيروسات الاستخراب ـ الاستعمار ـ القديم لمجتمعاتها وأراضيها.


الفئة الثانية: وهي تلك الفئة التي تتبنى الدعوة إلى التشبث بأهداب الماضي، بما يحمله من أفكار تراثية، ونصوص دينية مقدسة، والعض عليها بالنواجز، لأنه لا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها، وأن هذه الأفكار التراثية، والنصوص المقدسة، قد جاءت، لا لتعيش مع العصر، ويعيش العصر معها، بل لمواجهة مستجدات العصر، والوقوف في مواجهتها وقوف المتربص بها، باعتبار أنها من الأمور البدعية التي مآلها في النهاية إلى النار، ويتعين تحذير الناس منها.

وتستهدف هذه الفئة إما جرنا إلى الخلف لنعيش عصر الصحابة والتابعين، ونتخلى عن العصر الحالي بمكتسباته، ومستجداته، وأفكاره وتوجهاته، ونتجمد في هذا الإطار، ويجري تثبيت الصورة عند هذا المشهد، دون تخطيه إلى مشاهد أخرى، تخطاها العالم من حولنا، حتى وصل إلى المشهد الأخير. أو جر هذا الفصل التاريخي من الماضي، وإحضاره إلينا بمشاهداته الفكرية والسلوكية، حتى نعيش في كنف عصر الصحابة، بأدوات وأساليب الحياة المعاصرة. 

ومبرر هذه الفئة في دعوتهم، مكمنه ذهابهم إلى القول ـ ونحن معهم ـ أن عصر الصحابة هو عصر الكمال البشري، فيتعين الذهاب إليه أو استدعائه. وكأننا نعجز عن إقامة هذا الكمال في أنفسنا بأنفسنا، كما أقامه الصحابة في نفوسهم بأنفسهم، مع أن ما كان بين أيديهم، هو ذاته ما بين أيدينا، مضافًا إليه التراكم المعرفي الذي تكون لدينا بفعل مرور الزمن، ولم يكن لديهم.


ونتج عن هذا الفصام النكد بين الفئتين، وجود من لا يعيش الإسلام إلا باسمه، ووجود من لا يعش العصر إلا برسمه.

والفئة الثالثة: وهي الفئة بين الفئتين، وهي تمثل فئة الراقصة على السلم، التي لا هي التحقت بهؤلاء، ولا بهؤلاء. ولا وجدت لنفسها سبيلًا وسطًا تسلكه دون الفئتين الأخريين.


والإشكالية الفكرية في هذا الصراع في أن النظرة التنويرية التغريبية التي تري الحل في محاكاة الحضارة الغربية، محاكاة تفصيلية، حرفًا بحرف، وفعلًا بفعل، تفضي إلى انسحاق كامل للحضارة الإسلامية، وإقصائها، وتحويلها إلى صورة كربونية ممسوخة شائهة للحضارة الغربية. وهذا ما يجد مشاعر دينية عدائية من مجموع العامة.


والنظرة السلفية الماضوية تري الحل في محاكاة مرحلة تاريخية معينة، وهي فترة الصحابة، محاكاة تفصيلية، حرفًا بحرف، وفعلًا بفعل، الأمر الذي يفضي إلى تكرار ذلك النموذج، حيث يعيد الخلف نموذج السلف أبدًا، والوقوف عند مشهد التكرار نذير بالضعف، مهما بلغ هذا النموذج من كمال، لأن الكمال نفسه إذا تجمد عند مشهد بعينه، أصابه التآكل والنقصان والضعف، وربما أفضى الضعف بالضرورة بالحضارات المحاكية لسوابقها إلى الفناء.


أما الإشكالية الأكبر والأخطر، التي نواجهها، هي في انتقال هذا الصراع من المستوى الفكري، إلى مستوى الواقع المجتمعي، واستبدال سلاح القلم، بسلاح الكلاشينكوف، والمتفجرات، والأحزمة الناسفة.

فهل إلى الخروج من هذا المأزق من سبيل؟
الجريدة الرسمية