رئيس التحرير
عصام كامل

أسامة سلامة.. القديس


اسمحوا لى أن أتنفس قليلًا في حضرة صديق يترك صفصافة توقد شموع المحبة في زوايا قلوب الكثيرين، ودَّع كل حروب الحياة وترك كل شيء للطامعين في الحطام الصدئ للوجاهة، والتفت إلى مواكب الخير والعطاء والنبل والإنسانية والتسامح، هو أحد أبناء مدينة أفلاطون الفاضلة أو "يوتوبيا توماس مور" التي صوَّر فيها دولة مثالية بلا شر يتحقق فيها الخير والسعادة للناس.


عن أسامة سلامة -الذي أجمع وسطنا الصحفى والإعلامي على تلقيبه بـ"القديس"- أتكلم، في زمنٍ عز فيه النبلاء وندر فيه المخلصون، هو كملح الأرض، يذوب ليمنح من حوله الأمل في الحياة، مثل ينبوع الشمس لم يحرق سفنـًا، ولا صار قلبه تمثال ملح، يظل حالة خاصة وفريدة بالنسبة لى، تجاوزت حدود الصداقة إلى أن صرت من مريديه، هو عف اللسان والقلم، لا تجد من ألفاظه أو كلماته ما يسيء إلى أحد، تقع من أول لقاء في غرام إنسانيته الفياضة وضميره اليقظ وكرمه الطائى ونبله غير المسبوق وإيثاره على نفسه حتى تصير من "حوارييه".

أسامة صاحب الوجه البشوش والابتسامة الصافية دوما كالمتوضئ بالنور، هو حبة اللؤلؤ أو العنقود الذي يجمع حوله الكثيرين من المؤمنين بأن الموهبة هي أن تكتب في مواجهة أي سلطة تمارس عليك وصاية، وأن توقظ من السبات من يكتفون باغتياب الحكام الطغاة في المقاهى ليلا ويخضعون لرجالهم صباحًا، وهو صاحب مقولة "الأهم من أن يقرأ لك الكثيرون، أن تكتب ما تؤمن به دون أن تجرح أحدًا".

يضعك أسامة في حيرة على طريقة السيناريوهات المفتوحة إذا حاولت معرفة "هل هو مسيحى أو مسلم"، لا يهمه الإجابة لإيمانه بأن المعاملة هي أساس كل الأديان، وبأن "أكمل الناس دينا.. أحسنهم خلقا"، وبـ "عدم الإساءة إلى من يبغضك وبالصلاة لأجل من يسيء إليك".

يؤمن مثلى أن النهايات ليست كلها مأساوية، وبأن بعض لحظاتها ليست سوى إعلان عن ميلاد جديد، وبأننا نستطيع أن نقول وداعا دون أن نجرح، ويستنكر أن تترك جرحا غائرا في الذاكرة، ويؤمن بأن الغضب وقود الانتقام، وأن الغِل عُودْ ثقاب نلقيه مشتعلا في مكان ما فيلتهمه ويلتهمنا.

جعل من مقاهى وسط القاهرة "منتدى" لمحبيه يلقى عليهم موعظة الجبل، يضيفك بكرم وسخاء وكأنه العمدة أو الكبير مقاما في دوار بلدته "القوصية" بأسيوط، من رابع المستحيلات أن يدفع أحد "الحساب" غيره مهما بلغ عدد ضيوفه حتى صرنا نتهمه –مزحا- بأنه رأسمالى يمتلك كل مقاهى العاصمة، هو أكبر مدخن سلبى في مصر، يطلب لك "الشيشة" غير عابئ بما قد يسببه دخانها له من أذى، استقبل خبر إصابته بمرض السكري بعزيمة ورضا بقضاء الله.

أسامة نسف البدهية البشرية التي تقول إن الإنسان لا يحب أحدًا أفضل منه سوى أبنائه، وأثبت أن هناك من يحب أن يكون كل الناس أفضل منه، فهو يحب الخير للآخرين أكثر من حبه الخير لنفسه، لا يجيد الاستمتاع بالحياة، لأن بساطته وتصوفه جعلاه مترفعًا وزاهدًا عن كل أدوات الرفاهية ومنها التكييفات والمصايف والبحر والسيارات والشقق والفيللات والعقارات، وهى حالة لم تتشكل لديه بسبب كونه فقط "ابن عز"، وإنما لأن في جيناته الوراثية كثير من سمات الرقى والسمو والنقاء.

أسامة لم يكن يومًا أسير نزوات أو احتياجات أو طموحات قد تدفعه إلى السقوط في مستنقع نفاق أو مداهنة قد تفضى إلى إهانة يخجل منها عندما يختلى بنفسه يومًا، لأنه "شبعان" وابن أصول وليس في حاجة إلى شهرة أو مال أو منصب أو جاه.

ضميره يقظ دومًا، لم يتغير عندما تم اختياره عضوًا في المجلس الأعلى للصحافة سابقًا، أو بعد تعيينه رئيسًا لتحرير مجلة "روز اليوسف" التي حملت لواء التنوير في مصر لنحو قرن كامل.

غرف شقته الكبيرة التي يجمع فيها الأصدقاء ضاقت بآلاف الكتب، عندما تنتقى منها مجموعة من الأمهات وتستأذنه في الحصول عليها، لا يتورع أن يطلب منك بكرمه ولطفه الزائد الحصول على المزيد، اذهب إليه لأفضفض وأبوح بما يثقل كاهلي، ينتظرنى بشغف ثم يُربت على كتفى بنبل الفلاسفة، ويفيض علي من حكمته وسماحته وتصوفه بما يريح صدرى ويزيل همى، هو دومًا بالنسبة لى تميمة الحظ في كل الأحداث والمنعطفات السعيدة في حياتى.

أسامة هو الوحيد في مهنتنا الذي يمكن أن يضحى بمنصب أو بمكانة مرموقة أو بـ"دخل" كبير يمثل مطمعًا للكثيرين إذا حظى دون غيره من زملائه بزيادة في راتبه، أو إذا لحق أي ضرر بأرزاق من يعملون معه أو تحت قيادته، ثم يبقى –بعبقرية وإنسانية غير مسبوقة- على حالة الصداقة والود مع أولئك الذين تسببوا في إلحاق الضرر بزملائه ولا يعاديهم أبدًا، يفعل ذلك في الوقت الذي تمتلىء فيه مهنتنا بمن يرفعون في مسألة الرزق شعار "مصلحتى ومن بعدى الطوفان" وربما تلك هي الصفة التي اخترق من خلالها قلبى واكتسب محبتى.

تزاملت معه لسنوات كنائبين لأستاذنا كرم جبر رئيس قسم التحقيقات في "العالم اليوم"، وكانت بداية اكتشافى لنموذج غير مسبوق من البشر، لمست فيه بعدًا إنسانيًا هائلًا وسبرت أغوار هذا البحر العميق من العطاء والكرم والسماحة والزهد والترفع والنقاء، كان دوامنا تبادليًا، وكان يذهب بدلًا منى كل أيام الأسبوع بل كل أيام الشهر –بكل حب وسماحة وطيب خاطر– دون أن يحسِب علىً تلك الأيام أو يطلب منى تعويضها.

أعرف أسامة ولم نفترق منذ 25 عامًا، لم يحدث مرة حتى وهو في أي منصب أن رأيته لا يرد على موبايله عندما يرن أو يشيح بوجهه متبرما من متصل كما يفعل الكثيرون، وإن لم يستطع الرد يعود ليتصل بك معتذرًا بأدبه الجم ومبديًا الأسباب، لأنه لا يعرف إلا الصدق ويعيش حالة كاملة من الشفافية مع نفسه ومع كل المحيطين به.

أحبه إلى حد أننى لا أُخضِع علاقتى به لمبدأ الاهتمام المتبادل، فمثل هذا الكنز البشرى والإنسانى يصعب أن لايكون موجودًا في حياتك، بل إننى من المحظوظين كونى أحد أصدقائه.

سيقول أسامة بعد قراءة هذا المقال، ناظرًا بعينيه إلى الأرض حياءً وخجلًا كعادته، "لا أستحق ياعمدة أي شىء مما كتبته عنى"، لكننى سأرد عليه: "لم تنل بعد ما تستحق من تكريم وتقدير وعرفان.. يا أيها القديس النبيل".
الجريدة الرسمية