رئيس التحرير
عصام كامل

الطوفان بين ١٩٨٥ و٢٠١٧


في تجسيد مبدع لواقع مؤلم، تألق المؤلف والمخرج المصري بشير الديك بعبقرية ونبوغ وحرفية معتادة نتذكرها دائمًا حين نشاهد سواق الأتوبيس، والنمر الأسود، في رصد واقع حزين نعيشه في عالمنا منذ فترة طويلة عندما تغلب المال على الضمير وطمس بقايا الأخلاق، وأعمى القلوب، ونحر بسكين حادة رقبة الإنسانية، نجح بشير الديك عام ١٩٨٥ حينما قام بتأليف وإخراج فيلم الطوفان، وعلى مدى ساعتين رصد الفيلم وجعًا وألمًا يعكسان مدى الانحدار الأخلاقي والبعد عن الله والذي وصل ذروته في عام٢٠١٧، ليقدمه خيري بشارة من خلال تحويل رواية بشير الديك إلى مسلسل الطوفان، والذي جسد خلال ٤٦ حلقة أو ٢٦ ساعة تقريبًا بــ"معالجة درامية" معاصرة واقع بائس أصبحت فيه الأخلاق أكثر تدنيًا والبعد عن الله صار عمدًا!


ولأن المال أصبح ابتلاءً في عالم أقل أخلاقًا وأكثر بعدًا عن الله، على الرغم من أن الله سبحانه وتعالى وصفه بأنه زينة الحياة، مؤكدًا وصف الحياة بأنها "الدنيا"، ولكن لمن يدرك هذا، فما كان المال لكل مبتلى إلا بمثابة حجر ألقي في الماء منتجًا حوله دوامات لا تنتهي إلا بسقوط الحجر تمامًا إلى القاع، وهكذا دائمًا تكون نهاية كل من كان المال له ابتلاء!

في دراما حزينة ولكنها واقعية رصد بشير الديك عام ١٩٨٥، وأكد رصده خيري بشارة عام ٢٠١٧ وبعد أكثر من ٣٢ عام، تأثير المال الشيطاني فى قطع الرحم بدلا من صلته، وترك الزوجة لزوجها بدلا من العيش في كنفه، وذهاب العقل وقتل الأبناء لآبائهم، واستغناء الأم عن أطفالها، والنوم في حضن الخطيئة والاستمتاع بالرذيلة والكفر بالله.. انقلب الأبناء على عمهم وأبنائه في لحظة وأصبحاو خصومًا أمام المحاكم حتى تفصل في عقد بيع عرفي غير مسجل عليه بصمة والدهم المتوفي مالك الأرض، وموقع من أمهم كشاهد، نتيجة حاجته مضطرًا لقليل من المال على سبيل السلف من عمهم وكضمان دون نية في البيع.

ينسى الجميع هذا العقد إلى أن يظهر مشترٍ للأرض بقيمة باهظة، وتصبح شهادة الأم على التوقيع هي القول الفصل في تحقيق أحلام أبنائها الجديدة المرتبطة بهذا المال على الرغم من حياتهم السعيدة البسيطة قبل ظهور هذا الابتلاء، لترفض الأم شهادة الزُّور وتتمسك بشهادتها رغم قناعتها عدم نية زوجها في البيع، ليقول الشيطان كلمته ويتجرد ابنائها من كل معاني الإنسانية ويقتلوا الأم المؤمنة التي حملت وسهرت وتحملت مشقة التربية، وتكتم شهادتها للأبد.. وأظن أن من يطالع أخبار الحوادث اليومية يستطيع أن يقرأ أحداث مثل هذه الرواية الواقعية بتفاصيل مختلفة!

تميز خيري بشارة والمعالجة الدرامية للسيناريست محمد رجاء تقع في فصل النهاية بين ١٩٨٥ و٢٠١٧، وهو الفارق الكبير بين الفيلم والمسلسل، انتهى الفيلم الواقعي في ١٩٨٥ على شهادة شعاع النور وسط الظلام، وهو الابن الأصغر البار بوالدته صاحب الضمير اليقظ في المحكمة، حيث أدلى بشهادته دون استدعائه لينقل معلوماته عن الشهادة التي دفنت مع أمه إلى عدالة القانون، ويطلب من المحكمة استخراج جثة أمه لوجود شبهة جنائية في قتلها بعدما أكد أخوته في المحكمة على شهادته، ليسدل الستار عن الرواية قضائيا، أما في ٢٠١٧ ومع تدني الأخلاق وموت الضمير وقبل كل ذلك البعد العمدي عن الله، كان لابد من النهاية أن تتطور، حيث لم يبادر شعاع النور بشهادته في المحكمة رغم عدم اشتراكه أو معرفته بمقتل أمه، ورغم أنه كان متيقنًا من قتلها، وأعتقد أن المعالجة الدرامية لعبت دورها المهم في هذه النهاية لتسطر رسالة درامية حزينة تتماشى مع التدني السلوكي والديني والطمع الذي لا ينتهي والذي نعيشه الآن.

لا أدري إن كان ذلك قصدًا أم لا، حيث انتقام رب العالمين وهو العدل الحق، حيث انتهت حياة كل ابن عاق طامع معدوم الضمير نهاية مأساوية يستحقها، انتحرت إحدى البنات لتلقي ربها على معصية وكفر بالله، واحترق أحد الأبناء وزوجته الشيطانة عمدًا ليكون له نفس مصير أخته، وقتلت البنت الأخرى زوجها لتحاكم بالإعدام، وقتل الابن الآخر زوج أخته الكبيرة الشيطان ليبادره برصاصة تقتله هو الآخر في الحال!

وبلهجة عامية أودّ أن ألخص قيمة المال في حكمة تعلمتها من الأيام "حط الفلوس فوق دماغك توطيك، حط الفلوس تحت رجليك تعليك" وللحق أقول لم ولن يصنع المال سعادة لأحد إذا لم تتوافر له أسباب السعادة الحقيقية وأهمها رضا الله والتقرب منه والأمثال في الحياة كثيرة ومتعددة!

وأخيرًا أذكركم ونفسي بقول الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ صدق الله العظيم.
الجريدة الرسمية