رئيس التحرير
عصام كامل

واحترق الرضيع «أبانوب».. وتفحَّم


أيامًا قليلةً، عاشَها الرضيعُ "أبانوب"، لم يقضِها في حُضنِ أمِّهِ، ولا تحتَ بصرِ والدِه، ولكنْ داخلَ حضَّانةٍ بمستشفى حكومىٍّ.. يبدو أنَّ الصغيرَ لم ترُق لهُ الحياةُ بينَنا، فآثرَ الرحيل مُبكرًا، كرهًا وليس طوعًا، غادرَنا "أبانوب" مُحترقًا مُتفحِّمًا، أرداهُ الإهمالُ، اغتالتْه نفوسٌ رديئةٌ، يُسمُّون أنفسَهم في زمنِ الزيف: "ملائكةَ الرحمةِ"، وهمْ إلى "شياطينِ العذابِ" أقربُ.. احترقَ "أبانوب" في الحضَّانةِ حتى تفحَّم.. أرادوا إخفاءَ الخبرِ عنْ والديه، حاولوا التنصُّلَ منْ المسئولية.


توهَّمَ والداه عندما هرعا به إلى المستشفى أنهما سوف يتسلمانه مُعافى منْ مرضِ الصفراءِ، ولمْ يدرْ بخلدِهما أنهما سوفْ يتسلَّمانِ فقطْ ما تبقَّى منْ النارِ التي اندلعتْ في الحضَّانةِ، فيما كان الأطباءُ وأطقمُ التمريضِ يلهون.. لم يهتمْ أحدٌ بأمرِ الرضيعِ ووالديه المكلومين.

وزيرُ الصِّحةِ استغلَّ الواقعةَ لتصفيةِ الحسابِ معَ أحدِ وكلائِه الذين لا يُلبِّونَ رغباتِهِ، ولوْ كانَ الوزيرُ رشيدًا مُنصفًا لبادرَ بتقديمِ استقالتِه واعتزالِ العملِ العامِ تمامًا.. احترقَ الرضيعُ وتفحَّمَ.. فماذا سيقولُ للهِ حينَ يلقاهُ، وبمَ سيخبرُهُ عنَّا؟ سيقولُ، وهو مُحقٌ في قولِه: "اغتالوا حياتى قبلَ أنْ تبدأ، وددتُ أنْ أعيشْ، لأكملَ سعادة والدىَّ، وددتُ أنْ أخرجَ منْ المستشفى، وأعيشَ بينَهما، وألهوَ معَ أقرانى، وأذهبَ إلى المدرسةِ، وأُتمَّ تعليمى، وأكونَ مواطنًا صالحًا ونافعًا لأهلي ووطنى.. كنتُ أحلمُ يا ربِّى بأحلامٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ، ولكنَّهم أجهضوها وأحرقونى، ولمْ يرحموا ضعفى، لقد كنتُ خارجًا للتوِّ منْ بطنِ أمِّى.. أيرضيك هذا يا اللهُ.. كلُّ ما أرجوه منك أنْ تقتصَّ لى ولوالدىَّ".

احترقَ الرضيعُ وتفحَّم؛ لأنَّ والدَهُ فقيرٌ مُعدَمٌ، ولو كانَ ميسورَ الحالَ لذهبَ بهِ إلى مستشفى استثمارى أو خاص يهتم به ويرعاهُ.. أبناءُ الفقراءِ همْ منْ يموتونَ حرْقًا ودهْسًا وإهمالًا وغدرًا، هلْ تناهى إلى علمِكم يومًا أنَّ أبناءَ الأثرياءِ قتلَهم الإهمالُ الطبىُّ؟ احترقَ الرضيعُ وتفحَّمَ، وغادرَ الحياةَ مُبكرًا جدًا، ولكنْ هبْ مثلًا أنَّهُ لمْ يمتْ هذهِ الميتةَ الغادرةَ، فهلْ كانَ سيحيا حياةً هانئةً؟ الإجابةُ: طبعًا لا..

فأبناءُ الفقراءِ، لا يعرفونَ غالبًا، تلكَ الحياةَ الهانئةَ، بلْ يرثونَ فقرَ ذويهم وتعاسةَ حياتِهم.. لو امتدَّ العمرُ بالرضيعِ المُحترقِ بعض أعوامٍ، فالموتُ كانَ سوفَ يصطادُه حتمًا بـ "إهمالٍ طبىٍ آخرَ"، أو بـ "حادثٍ مرورىٍّ غاشمٍ"، أوْ بـ "عصا أو صفعةِ مدرسٍ فاشلٍ"، أو بـ "وجبةٍ غذائيةٍ قاتلةٍ"، أو بـ "رصاصةٍ طائشةٍ في حفلٍ زفافٍ".. ولو لمْ يمتْ "أبانوب" بهذا أو ذاكَ، فإنَّهُ كانَ سينضمُّ حتمًا إلى 10 ملايين طفلٍ يعانونَ منْ الفقرِ متعددِ الأبعادِ، بحسبِ تقريرٍ رسمىٍّ صدرَ حديثًا.. وكفى بالفقرِ قاتلًا ومُروِّعًا وقاهرًا للحياةِ.
الجريدة الرسمية