رئيس التحرير
عصام كامل

الوعي المجتمعي في تجارب الإصلاح الاقتصادي المناظرة


الأكثر أهمية من الإصلاح الاقتصادي هو الالتفاف الشعبي حول القيادة السياسية والإيمان بضرورة تحمل إجراءاته من أجل مستقبل الوطن فيتحقق المستهدف من الإصلاح، وعادة ما تدرك القيادة السياسية أثر الإجراءات الاقتصادية فى شعبيتها، ولكن قد يكون الإصلاح والمواجهة ضرورة وليس اختيارًا من أجل إنقاذ الدولة.


إن العبور الآمن بالمجتمع أثناء الإصلاح الاقتصادي تحقق في تجارب دول سابقة نجحت في المرور من عنق الزجاجة، وتحققت بالرضا الشعبي، اعتمادًا على بناء الوعي المجتمعي من خلال جسور الثقة بين الشعوب والحكومات التي تدير ملف الإصلاح من أجل مستقبل أفضل.. من خلال إعلام وطني هادف ومؤسسات دولة واعية ينطلق التسويق السياسي الممنهج للوصول إلى الالتفاف الشعبي المنشود.

من التجارب الناجحة تجربة بريطانيا التي قادتها مارجريت تاتشر ١٩٧٩، وكانت توجهها سياسات اقتصادية محافظة لإزالة القيود التنظيمية وتطبيق برنامج طموح للخصخصة مع مرونة في أنظمة سوق العمل لتقلل من نفوذ النقابات العمالية، وحققت نوعًا من اللامركزية في الإدارات المحلية.. وقد سبب ذلك بعض التذمر من المتضررين سواء من المواطنين أو رجال الأعمال أو العمال، ولكن مصداقية الإعلام الحكومي ومؤسسات الدولة استطاعت العبور من التذمر الشعبي فنجح البرنامج في خفض البطالة، وتحقيق معدلات نمو مستهدفة.

أما في الولايات المتحدة فإن الرئيس (رونالد ريجان) قرر إصلاح النظام الاقتصادي واعتمد برنامج "ريجان" على أربعة محاور هي ضغط الإنفاق الحكومي وخفض معدلات الضرائب وإزالة بعض القيود التنظيمية والحد من عرض النقود لمحاربة التضخم، وتأكيد مبادئ الاقتصاد الحر، وعلى الرغم من المعارضة فقد استطاع تطبيقه اعتمادًا على دعم الآلة الإعلامية الأمريكية له، فاستطاع أن يُخرج اقتصاد الولايات المتحدة من أزمته، فتحققت نسب النمو وانخفضت معدلات البطالة والتضخم.. وكان البرنامج قاسيًا على بعض فئات الشعب ولكنه حقق نتائج مستهدفة.

تجربة الصين تحقق فيها إعلام حكومي بلا معارضة في ظل سياسة الحزب الواحد، والتي بدأت بعملية الهيكلة من خلال هيئة عليا تراقب جودة الإدارة وفاعليتها، والتحول بالنظام الإداري من الصلب إلى المرن الذي يميز القطاع الخاص خاصة في التوظيف، من حيث الفصل والتعيين ووضع الحوافز والعقوبات التي تراها الإدارة مناسبة، هذا وقد وضعت الدولة خطة لوجودها في قطاعات استراتيجية دون غيرها مثل الطاقة والاتصالات والطيران بما تمثله من قطاعات حساسة، إلى جانب وجودها في قطاعات أخرى مثل الأسمنت والحديد والسيارات والإلكترونيات.. إلى جانب تحفيز المنافسة بين المحافظات لتوجيه ٢٥٪‏ من ضرائب المبيعات و٤٠٪‏ من الضرائب لذات المحافظة، بما خلق روح المسئولية لدى الموظف والمواطن نحو الاقتصاد، وبدأت التجربة في بداية التسعينيات، حيث كانت شركات القطاع العام هي مدن مترهلة بها مدارس ومستشفيات، وبها ملايين العمال، وكانت تحقق خسائر بكل المقاييس وقد رفضت الحكومة الصينية الخصخصة، ولكن الدولة خاضت معركة التأهيل وفي بعض الأحيان اعتمدت على بيوت الخبرة في الرقابة على الجودة والتطوير الإداري، بما يضمن الاندماج مع الاقتصاد العالمي من خلال مرونة النظام واستيعابه للتطور المستمر واعتماد التكنولوجيا وعلوم الإدارة، بل إن التوظيف والفصل والرواتب المرنة خضع لمرونة فائقة مرتبطة بتحقيق الأرباح، واستقر النظام السياسي الصيني بنقل ٤٠٠ مليون مواطن من خط الفقر.

تجربة البرازيل بدأت في برنامج الإصلاح بالشركات ثم الاستهلاك، فنجحت الإجراءات إلى خفض عجز الموازنة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتلقت البرازيل استثمارات مباشرة وصلت إلى 200 مليار دولار ما بين عامي 2004 و2011، وعاد أكثر من مليون مهاجر إلى بلده.. قدمت الحكومة قسائم شراء الغاز، والبرامج الاجتماعية الخاصة بمحدودي الدخل بما حد من الغضب الشعبي، أيضًا الثقة في القيادة السياسية ونجحت التجربة بالاعتماد على وعي شعبي.

وفي تركيا نجح أردوغان في خلق إرادة شعبية نحو الإصلاح الاقتصادي، وأظهر مظاهر محاربة الفساد في المستويات الدنيا رغم ما ظهر أخيرًا من فساد في النخبة الاقتصادية والسياسية، وقد اعتمد على صناعة رأي عام مؤيد للإصلاح.

تجربة اليونان شهدت اضطرابات ورفضا مجتمعيا وتظاهرات وتصادمات مع الشرطة ٢٠١١، نتيجة لأنها ظهرت كإجراءات تقشفية يفرضها الاتحاد الأوروبي ولم يكن هناك إرادة مجتمعية مع الإصلاح، وقد شمل رفع سن التقاعد، وخفض أجره في نفس الوقت، وخفض عدد موظفي الدولة، والحد الأدنى للأجور أيضًا وتحرير سوق العمل.

أيضًا في فرنسا فرض الاتحاد الأوروبي بزعامة ألمانيا برنامج التقشف على غير رغبة الشعب الفرنسي، مما سبب رفضا شعبيا بعد أن اختار الشعب رئيس اشتراكي، وكان الشعب يأمل في زيادة في الحد الأدنى للأجور، والاستثمارات العامة ولم يتحقق ذلك.

وفي إيطاليا فرض برنامج تقشف سبب مناوشات عنيفة، مما دفع رئيس وزراء إيطاليا السابق "سيلفيو برلسكوني"، إلى التبرؤ من تلك الإجراءات واتهام الاتحاد الأوروبي بإجباره عليه، ولم تقتصر معارضة خطة التقشف على جموع الشعب الإيطالي، ولكن أيضًا أعضاء من الحكومة، ووصفوها بالعشوائية.

أيضًا في إسبانيا واجهت الحكومة في ٢٠١٢ غضبا شعبيا وتظاهرات ضد إجراءات التقشف.

أيضًا تجربة إندونيسيا غابت عنها الإرادة الشعبية في ظل تفشي الفساد ومراعاة البعد الاجتماعي، مما نتج عنه اضطرابات وتظاهرات بعد رفع سعر المحروقات، وانتهت بأن تراجعت الحكومة في إجراءاتها وتوقف برنامج الإصلاح.

أما في الأرجنتين ٢٠١١ فإن التضخم وصل ٤٠٪‏ وانخفاض قيمة العملة صاحبه فساد النخبة والمسئولين بما سبب رفضا شعبيا وانخفاض شعبية النظام بدرجة مفزعة.

إن (جوستاف لوبان) في كتابه (سيكولوجيا الجماهير) أكد أن "نابليون بونابرت" لم يستطع تحويل فرنسا من دولة مشتتة داخليًا بعد الثورة الفرنسية إلى إمبراطورية قوية، دون الاعتماد على خلق روح معنوية نحو تحقيق إنجازات وطنية، اعتمادًا على تحفيز الجماهير أمام التحديات، لذا فإن دور الإعلام هو دور مفصلي في عبور الأمة من نفق التحديات الاقتصادية قبل دور الإجراءات الاقتصادية ذاتها.
الجريدة الرسمية