رئيس التحرير
عصام كامل

محمود الهواري يكتب: قرار من لا يملك لمن لا يستحق

فيتو

قفزت هذه الجملة إلى ذهني وأنا أتأمل هذا المشهد الدولي من دولة تدعي صنع السلام، والحفاظ على الحقوق والحريات، ورعاية الديمقراطية، وكرامة الإنسان، ودولة تقدِّم فلذات أكبادها ضحايا جشع وطمع كيان لقيط ملفق لا يعرف قاموس حياته إلا مفردات القتل والتشريد والتدمير والتخريب والإرهاب، وما يدور حول هذه المفردات.


إن كلمات ترامب التي تفوه بها تكشف الحقَّ الصُّراح الذي يتعامى البعض عن رؤيته، فمتى كانت الولايات المتحدة راعية للسلام، وأي سلام هذا الذي صنعته في العراق، أو في أفغانستان، أو في الشيشان، أو في البوسنة والهرسك، أو في أي أرض مسلمة؟!!!

وأي إنسان هذا الذي تحافظ عليه، وتحترم كيانه، وتصون كرامته وآدميته، وتحفظ حقوقه؟ اللهم إلا أن يكون هذا الإنسان إنسانهم، أما إنسان الإسلام فأبعد الناس عن حقوقهم ومواثيقهم.
وما أصدق القائل:
قتل امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تُغتَفر
وقتل شعبٍ آمنٍ مسأَلةٌ فيها نظر

لكن هذا الإعلان الترامبي الذي يستفز شعور ملايين المسلمين فضلا عن غيرهم من المسيحيين، وشرفاء العالم هذا الإعلان يكشف النوايا والأيدلوجيات ويكشف الكذب والخداع في صنع السلام ورعايته، فطالما تغنت أمريكا بذلك، فهل صنع السلام باغتصاب الأرض، وطرد أصحابها؟ وهل صنع السلام بالتضليل الإعلامي المفضوح؟

ولا عجب في كلام ترامب، فالحرب على الإسلام دينا وأرضا وأتباعا ليست جديدة، فمنذ أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم جبل الصفا وصدع بما أمر به، والناس يعادون دعوته، في أشكال شتى من الإيذاء والتنكيل والاضطهاد، لم يسلم منها نبي الرحمة، ولا أتباعه الرحماء، وما أشبه الليلة بالبارحة، فالكيد للإسلام وللمسلمين، ولأرض الرسالات لم ينقطع يوما.

إن قرونا متطاولة تتجاوز ألفا وأربعمائة عام من عمر الزمن هي عمر الدعوة التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم رحمة وسلاما إلى كل ما خلق الله، وهي أيضا عمر المعاناة والكيد والاضطهاد لهذا الدين الحنيف ورسوله وأتباعه، وهي قرون متطاولة من عمر الإسلام لم تخبُ نار الكيد للإسلام والمسلمين خلالها، وإن اختلفت الأساليب وتنوعت الأهداف، حتى إن رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم من الأذى، بل آذَوْه ومَن آمن معه إيذاء شديدًا، حتى اقترحوا في دار ندوتهم أن يخرجوه من أرضه.

ويبدو أن دار الندوة المكية التي اجتمعوا فيها للكيد لرسول الإسلام قديما يبدو أنها أصبحت دورا ومؤسسات وهيئات دولية، ولا زالت تعقد اجتماعاتها إلى يومنا هذا، وإن اختلف المكانُ وتغير الإنسان، فها هو الكيد والاضطهاد يوجه للدين ولمن آمن به، ويشمل كذلك أرضهم التي يعيشون عليها، ويشهد على فساد سعيهم فلسطينُ الإسلامية، وما الروهينجا عنا ببعيد، فضلا عن غيرها من بلاد الإسلام.

ولست في مقام الدفاع عن الإسلام ولن أكون، فديننا ليس متهما، بل ديننا دين السلام، فالدين الذي يعلن في صراحة ووضوح تكريم الإنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو عقيدته، لا يكون دين إرهاب أو عنف، قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم)، والإله الذي يرسل خاتم رسله رحمة للعالمين لا يكون دينه دين إرهاب أو عنف، يقول تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، والدين الذي تنظم شريعته علاقة أتباعه المؤمنين بغيرهم ممن لم يؤمنوا ليس دين إرهاب أو عنف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن آذى ذِميًّا فقد آذاني»، وقولَه: «مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفًا» وكثير من النصوص التي تحمل السلام للعالم.

ويبدو أن آلتهم الإعلامية الضخمة قد وظفت لغرض واحد ألا وهو تشويه الإسلام، والإصرار على تصدير صورة مغلوطة عن المسلمين، وتأكيدها، ووصمهم بالإرهاب، فراحت تستغل فئة ضالة محاربة قلَّ في الدين فهمُهم، وعَظُمَ في المجتمعات أذاهم؛ تسفك دماء الأبرياء، وتروع قلوب الآمنين، وتعتدي على حرمات الله، ومقدساته، ثم تعلن في بيانات عرجاء أنها تدافع عن هذه المقدسات! فأخذت الآلة الإعلامية الكاذبة تدق على هذه الفئة وتعظم شأنها، لتؤكد وصف الإسلام بتهمة هو منها بريء، إلا أن شواهد التعايش مع غير المسلم في ظل سلام واحترام متبادَل على مدار تاريخ الإسلام الممتد تفضح هذا الزيف الذي لم يعد يخفى بطلانه على أحد.

والمتأمل لما يجري في بلاد الإسلام من أحداث وقلاقل ونزاعات، يدرك أن المستفيد الوحيد من هذا الحراك هم اليهود، ولذلك فإن السؤال المنطقي هنا ينبغي أن يكون عمن يمول ويدفع، ويسلح بشتى أنواع الأسلحة والأجهزة المتطورة.

وليس جديدا أن يعمل اليهود على تزييف الواقع، فهذا ديدنهم، وشأنهم، فعلماؤهم يزورون التاريخ، ويصورون للعالم أن إسرائيل مملكة يهودية، ولا بد من العودة إليها، مع أن التاريخ والواقع يقول بغير هذا فـ 80% من آثار القدس إسلامية، و18% من آثارها مسيحية، و2% آثار وثنية، وليس لليهود أثر يعرف في هذه الأرض التي باركها الله، وعلى مدار عشرات السنين توالت أكثر من خمسين بعثة للتنقيب عن هذا الوهم اليهودي فلم تجد شيئا.

إن هذا التصريح الباطل من ترامب ينبه الأمة من غفلتها، ويدعو إلى أن ترجع الأمة إلى وحدتها، فلا خلاف، ولا خصومة بين بلدانها، فبلاد الإسلام كالجسد الواحد يشد بعضه بعضا، فهي أمة واحدة وإن تغيرت أسماء بلادها، وليست أمتنا فقيرة لا في أرضها، ولا في مواردها، ولا في رجالها، ولا في أفكارها.

وأول واجب على الأمة أن تعرف عدوها من صديقها، وأن تقبل على مصادر وحدتها لتجتمع عليها، وهاهو الأزهر قد بدأ إمامه الأكبر الأسد الهصور يعلن في وضوح رفضَه القاطعَ لهذه الخُطوة المتهورة، ويحذرُ من خطورةِ هذا القرار الباطل الذي تتجلى فيه مظاهرُ الغطرسةِ، وتزييف التاريخِ، وترويج النبوءاتِ الكاذبةِ، والعبث بمقدسات الشعوبِ وآمالها.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يؤكد فيها الأزهر إسلامية وعروبة القدس، بل سبق أن أعلن في وثيقتِه حول القدس في 2011م، وفي بياناتِه الأخيرة، أن عروبةَ القدسِ وهُويتَها غيرُ قابلةٍ للتغيير أو العبث، وأن مثل هذا القرار الطائش يؤجج مشاعر الغضب لدى جميع المسلمين، ويعزز التوتر والانقسام في العالم، فضلًا عن أن تلك الممارساتِ الظالمةَ والقراراتِ المنحازةَ تُفقِدُ الشعوبَ الثقةَ في نزاهة المجتمع الدولي، وتغذي رُوحَ الكراهية والانتقام، وتَزيد من حالة الحَنَقِ والإحساس بالتهميش والظلم لدى المسلمين، وتؤكد ما يجول في أذهان كثيرٍ منهم من وقوفِ بعضِ دول الغرب خلفَ هذه الجماعات الإرهابية، واستخدامِها كوسيلة لإضعاف المسلمين من داخلهم، واتخاذِ محاربة الإرهاب ذريعةً للاستيلاء على بلاد المسلمين بزعم حمايتهم وتخليصهم من هذا الإرهاب الأسود.

إن من أوجب الواجبات التي ينبغي العمل عليها أن نظهر وجه الإسلام المشرق، ونؤكد أن ديننا يقر المواطنةَ والتعايش السلمي وقَبولَ الآخر، وهي مبادئُ ساميةٌ تخدِم الأهدافَ الإنسانية وتحقق المصالحَ البشرية المشتركة، وتؤدي إلى ترسيخِ الاستقرارِ، واستتباب الأمنِ، وتعزيز السلمِ، وردع العدوانِ، والتصدي للظلم والاضطهاد.

وأن نعمل على أن نحقق الخيرية التي إرادةا لله لهذه الأمة تأمر بالمعروف علما، وعملا، وخلقا، وإنتاجا، وعمارة، وحضارة، وتنهى عن المنكر تخريبا، وتفجيرا، وإرهابا.

وأن نطالب الغرب - وخاصة الدول الكبرى فيه - بالتخلي عن سياسة الكيل بمكاييل متعددة في تعاملهم مع قضايا العالم، وأن تتحمل المؤسسات الدولية والهيئات الأممية مسئولياتها تجاه ما يحدث للمسلمين ومقدساتهم حول العالم.
الجريدة الرسمية