رئيس التحرير
عصام كامل

ليلة سقوط القدس


الزمان: الخامسة مساء الثلاثاء ٥ ديسمبر ٢٠١٧
المكان: قصر مهيب للحاكم العربي

حركة غير عادية، موظفون يتحركون في كل مكان، زيارات لشخصيات نافذة في الدولة؛ كل شيء يوحي بالطوارئ، وجوه عابسة، جباه ترتسم عليها تجاعيد السهر لليالٍ طويلة.. سيارات فارهة تتراص في ردهة القصر الواسعة.


في حركة سريعة، يحمل مدير مكتب الحاكم مظروفا مزينا بعبارة سري للغاية.. يدخل الرجل دون أن يطرق الباب.. يجري صوب الحاكم.. يضع المظروف أمام الرجل الذي يبدو أنه كان ينتظر بترقب.. يمسك بالمظروف.. يفتحه بسرعة.. تتحرك عيناه وعلى وجهه تتقوقع سنوات طويلة تضاف إلى تجاعيده التي خطها عمر مديد في السلطة.. يقرأ سريعا.. يلقي بجسده على المقعد الوثير.. تنهيدة تمضي في حلقه وكأنها سيف بتار.

يردد مدير المكتب: «خير يا فندم».. يرد الحاكم: «لا خير يأتي من البيت الأبيض.. التقارير تؤكد أن دونالد ترامب سيفعلها غدا ليحرق كل قصور الحكم العربي، بنيران الاحتجاجات التي لن تتوقف.. غدا سيسلب الرئيس الأمريكي آخر أوراق التوت التي تستر بعض عوراتنا.. غدا سيمنح القدس للصهاينة رغم تحذيراتنا المتتالية».

يشير الحاكم إلى مدير مكتبه ليبدأ الاجتماع فورا.. يتحرك مدير المكتب خارجا وبسرعة.. دقائق تمر والجميع ينتظر الحاكم في غرفة اجتماعات شهدت العديد من المناقشات والمؤامرات والقرارات المصيرية. يطلب الحاكم العربي من وزير الخارجية استعراض الأمر.. «يبدأ الوزير متصنعا حالة من الوجوم؛ ليؤكد أن مندوبنا في الأمم المتحدة وسفيرنا في واشنطن يؤكدان أن الإدارة الأمريكية ستعلن على لسان الرئيس دونالد ترامب؛ نقل سفارتها إلى القدس والاعتراف بها عاصمة أبدية لإسرائيل».

ودون أن ينطق الحاكم بكلمة، يشير إلى مدير المخابرات الذي يكرر نفس ما قاله وزير الخارجية، ويضيف إليه أن ذلك كان ضمن تقرير معلوماتي أكدته أجهزة الاستخبارات، منذ أن تبوأ دونالد ترامب مقعد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، ويشير إلى أن معلوماته تؤكد «أن هناك عواصم عربية أدارت حوارا مع واشنطن دون أن تعترض على ما يزمع الرئيس الأمريكي فعله غدا».

يلتقط مدير جهاز الأمن الداخلي خيط الحديث، ليوضح للرئيس كيف ستتحرك النقابات والأحزاب السياسية وطلاب الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني غدا، بعد خطاب الرئيس، ويطالب الحاكم برفع درجة الاستعداد إلى اللون الأحمر.. يتحدث مدير الأمن الداخلي باستفاضة عن مؤامرات تحيكها المعارضة استغلالا للظرف الطارئ، وكيف يتواصلون مع جهات أجنبية بغرض السيطرة على الشارع، ومن ثم إثارة الفوضى.. يسهب الرجل فيما يراه مؤامرة خارجية تستهدف النيل من استقرار البلاد.

يشير الحاكم إلى رفع درجة الاستعداد للحالة "ج".. دقائق صمت مهينة تمضي وكأنها ساعات.. يقف الحاكم إيذانا بانتهاء الاجتماع.. كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء عندما خرج الجميع من القصر لتتحرك حراسات الخطة "ج" تحيط بالقصر.

يصعد الحاكم إلى جناحه الخاص.. عبثا تحاول الزوجة التخفيف من وقع الصدمة دون جدوى.. عينا الحاكم زائغتان تتحركان في سقف المكان دون كلمة واحدة.. يناقش الأمر في ثرثرة لا يسمعها أحد.. ربما تتحرك الجماهير غدا لمحاصرة القصر.. ستكون الجموع غاضبة لن يوقفها حارس، ولن تصمد أمامها قنابل الغاز ولن تمنعها كل قوات الطوارئ.. ربما يحرقون القصر.. حتى لو كانت هناك مؤامرة خارجية، فإن الأمر يرتبط بالقدس.. «للناس الحق في أن يثوروا فقد تحملوا لعقود طويلة غياب الحرية.. تحملوا الجوع والأزمات.. تحملوا كل صنوف الحصار من أجل القدس».

يشعر الحاكم بأن أجواء القصر خانقة.. لا هواء فيها.. يخرج إلى الحديقة الواسعة.. يتحرك غارقا في هواجسه ومخاوفه وأفكاره.. تبدو السماء بلا قمر ينيرها.. ليلة تغلف سمواتها سحابات سوداء تنذر بالكثير.. أشجار القصر عابسة لا حراك فيها.. شيء ما احتجز نسمات الهواء العليل في مثل هذا الموسم.. قد تكون نهاية الكون غدا، فإن لم تكن فقد تكون نهاية عصر (الستر) وبدء زمن العورات!!

يعود الرجل إلى جناحه وعيناه جاحظتان.. يتصل من على الخاص بمدير الأمن الداخلي ليسمع منه كيف سيتصرفون غدا؟ يسهب رجل الأمن في الحديث عن تفاصيل المؤامرة التي تحاك ضده ممتطية القدس وقضيتها.. يتكلم عن معلوماته حول أشخاص بعينهم من خصوم الحاكم.. «ترتفع دقات قلب الرجل، وهو يحاصر بمعلومات غاية في الخطورة، وكلما أرهقت نبرة صوته أحاسيس الخوف زاد رجل الأمن في التعبير عن صعوبة الموقف».

يغلق الهاتف ويعود محاصرا داخل ذاته أكثر مما كان.. تحيط به الظنون تنهش أحشاءه دون رحمة.. يردد: كل (سنوات) من كانوا قبلنا كانت تعتمد على القدس.. من أجل تحريرها، لا حديث عن الحريات.. لا حديث عن التنمية.. لا صوت يعلو فوق صوت القدس.. عقود قضاها أجدادي تحت عباءة معركة التحرير.. قدس الإسراء.. قدس كنيسة القيامة.. قدس العذراء والبكارة وكل القيم الإنسانية النبيلة.. آه، كم كان هذا المكان باحة واسعة لكل من سبقوني؟ وكم كانت القدس شماعة لكل زملائي ممن اعتلوا مقاعد الحكم في وطننا الكبير!!

يلقي بجسده المتعب فوق سريره، وكأنه يودع هذا النعيم الذي كان مقيما، فغدًا قد يحمل كل ما هو مخيف.. «هل أعيش مطاردا.. منفيا؟ّ! هل تحاكمني الجماهير العريضة التي صبرت عقودا وعقودا من أجل التحرير؟! هل تطارد أسرتي؟! هل يقبضون على أبنائي وبناتي؟! كيف سيواجهون القفص الحديدي وطعنات الثوار والمتآمرين والخونة؟! كل شيء يحاصرني.. كل شيء يكتب نهاية ذليلة.. مهينة.. قاسية».

ينهض ممسكا بزمام المبادرة.. يتصل بوزير الداخلية ليأمره بالحسم في مواجهة المؤامرة الملعونة.. يتصل بوزير الإعلام، ويطلب منه الاستعانة بمؤرخينا الوطنيين ليتحدثوا عن عدد المرات التي احتلت فيها القدس.. على شيوخنا العظام أن يتحدثوا عن هزيمة المسلمين في «أُحد» لأن الناس من حول الرسول لم يلتزموا.. على الشعب أن (يلتزم) حول الحاكم من أجل تحرير القدس.. على الصحفيين الشرفاء أن ينقلوا للعامة أن هذه جولتهم ولنا جولتنا.

يشعر الحاكم أنه قادر على المواجهة.. يتواصل مع زعماء الأحزاب"الوطنية" ليحدثهم عن المؤامرة الكونية التي تحاك ضد بلاده.. عليهم أن يدركوا حجم اللعبة التي يخطط لها خونة بيننا.. عليهم أن يخاطبوا الجماهير بما قدمناه فداء للقدس على مدار تاريخنا، ولننقل دفة الطعن إلى غيرنا من هؤلاء الذين باعوا القدس، وباعوا القضية.. تحرير القدس يبدأ من تحرير عواصم الخيانة في وطننا المسلوب.

يعجب الحاكم بما وصل إليه من طريقة ستحول دفة الأمور إلى خارج قطره.. يبدأ في التواصل مع بعض أقرانه ممن تربطه بهم علاقات وطيدة؛ لينقل إليهم خطته في مواجهة الجماهير.. يمضي الساعات في تأكيد خطته للمسئولين.. يأتي الصباح مشرقا والهواء عليلا وخريطة الوطن (ممدة) أمامه، وهو المسيطر عليها بكل قوة.. جنود الحاكم في كل مكان.. صباح التليفزيون يتحدث عن تضحيات الشعب من أجل القدس.. سويعات قليلة ويعلن وزير الداخلية عن ضبط تنظيم يرتبط بأجهزة خارجية من أجل إثارة القلاقل.

قادة الأحزاب السياسية يمهدون للجماهير ما قد يحاك ضدنا.. بيان من وزارة الخارجية يتحدث عن الخطر القادم من دولة شقيقة تخطط بليل ضدنا.. جهاز المخابرات الوطني يعلن عن اعترافات تفصيلية لمتورطين مع دول غربية وأخرى آسيوية لإجهاض تجربتنا التنموية.. وزير التعليم العالي يطالب بوضع حراسات أمنية على الجامعات بعد وصول معلومات حول تفجيرات قد يقوم بها متطرفون بقصد قتل أكبر عدد من الطلاب.

سويعات قليلة وتتحول البلاد إلى ثكنة عسكرية وتحاصر النفوس أحاسيس الاستهداف الخارجي.. والناس في بيوتهم يترقبون ماذا سيقول الرئيس الأمريكي الليلة.. تنتقل مؤشرات الريموت كنترول إلى كل القنوات الأمريكية التي تنقل بالصوت والصورة وقائع ما سيجري.. يخرج (المعتوه) الأمريكي على الملأ.. يوقع باستهانة وفي حركة مسرحية وثيقة نقل سفارة بلاده إلى القدس.. يستعرض في إهانة واضحة لكل الوطن العربي توقيعه السينمائي وينتهي المشهد.

في تراس واسع تزينه زهور ونباتات نادرة كان الحاكم يتناول إفطاره، متابعا تقارير الأجهزة.. كل شيء على ما يرام إلا من واقعة تستحق التدقيق والتأمل.. مظاهرة وطنية خرجت من ميدان الشعب تهتف باسم القائد الذي لم يفرط أبدًا، وتطالب فخامته بكشف تفاصيل المؤامرة، وإعلان أسماء الحكام العرب الخونة الذين باعوا.. يطالب المتظاهرون حاكمهم بألا ينجرف أو يتورط فيما أراده أعداء الوطن!
الجريدة الرسمية