رئيس التحرير
عصام كامل

عنبر الخطرين يحرر «القدس»


لا أعلم كيف جاءتها الشجاعة الكافية.. هذه المناضلة التي لم تخش من جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومن ورائه أمريكا ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي.. لا بد أنها أرادت أن تعطي الدرس للأجيال القادمة حتى إذا جاء ذلك على حساب أمنها الشخصي المهدد الآن من الموساد.. إنها المذيعة الشجاعة التي طلت علينا عبر قناة (القاهرة والناس)، والتي توقفت للحظات عن الحديث في برنامجها قبل أن تمسك القلم لتبدأ في "الشخبطة" على ورقة بيضاء أمامها، ثم طالبت المخرج أن يركز بالكاميرا على الورقة البيضاء لنكتشف أنها رسمت علم إسرائيل عليها قبل أن تمزق الورقة بعنف فيما جاء في خلفية البرنامج موسيقى أغنية (زهرة المدائن) !


ظننت أن الأمر ينطوي على مزحة ما ولكنها قالت بنفس الجدية لطاقم عمل البرنامج أن ينتظر وألا يخرج في فاصل قائلة ما معناه (أنتم فاكرين كده خلاص) فعرفت أنها لم تُعرب عن كامل موقفها وأن هناك المزيد، وبالفعل وضعت قصاصات الورقة الممزقة في كوب ماء معلنة موقفها بوضوح بأن على إسرائيل أن تشرب من هذه المياه قبل أن تقول بحزم لطاقم البرنامج (اطلع بالفاصل) لتُنهي هذه الفقرة العنيفة مع الموسيقى الحماسية.

تأثرت من موقفها لدرجة أن عيني أدمعت من كثرة الضحك لأننا كنا نتحدث قديمًا عن إغراق إسرائيل في البحر فأصبحنا نُغرقها في كوب الماء لذلك خصصت هذا المقال لأعلن بدوري لجيوش العالم ألا تأخذ مصر بأكملها ضحية للموقف الحاد لهذه الإعلامية، وإذا قرر العالم بأكمله محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي للمطالبة برأسها فلن نعطيهم سوى كوب الماء ليشربوا منه، فنحن قد نتحمل فقدان القدس أو تدمير الأوطان العربية أو الضياع بين وعد بلفور ووعد ترامب، ولكننا لا نستطيع أبدًا الحياة بدون الكوميديا السوداء التي يصنعها البعض بحسن نية أو بسوء منها فتؤدي في النهاية إلى تفريغ القضايا من مضمونها وتحويلها لمجرد موضوع جذاب يشغل الجمهور لفترة مثلما تخصص البعض في نشر العشوائية وقلة الوعي عبر الفضائيات لدرجة قد تدفعنا للمطالبة بوقف برامجهم عن البث من مدينة الإنتاج الإعلامي على أن تبدأ بثها من العباسية وتحديدًا عنبر الخطرين.. وإذا كان العالم يحتفل الآن بذكرى ميلاد مكتشف "التمثيل الضوئي" في النباتات، فإن الأخير عجز عن اكتشاف "التمثيل المشرف" في القضايا فأصبح البعض يجتهد في محاولة صنع بطولات مزيفة لنفسه.

وما ذكرته مجرد مثال لتعامل بعض الإعلاميين مع القضايا المهمة والمصيرية حيث يبتعدون أحيانًا ببرامجهم عن النقاش الجاد وتحليل المعلومات مع الاكتفاء بتحويل الحلقات إلى صرخات جنونية بهدف صناعة "مانشيتات" براقة، و"هاشتاجات" مثيرة، و"فيديوهات" قصيرة بعناوين جذابة تصلح للباقات الصغيرة لمستخدمي الإنترنت بعد أن أهملنا الصناعات الثقيلة واكتفينا بصناعة "الترند" أو الحديث عن الموضوعات الأكثر بريقًا بين مستخدمي الإنترنت بطريقة تثير الاهتمام مع إهمال قيمة المحتوى المقدم نفسه أو طريقة معالجة القضية.

أتفهم أن يؤلمنا اليأس ولكن لا يجب أن نسمح له بأن يُفقدنا عقولنا.. لدينا عدو تكمن هزيمته في قوتنا.. تحسين التعليم يدمره.. تطوير الصحة يمرضه.. تجديد أفكارنا يهدمه.. بناء منظومة إعلامية قادرة على المساهمة في بناء وعي المجتمع يٌزعجه.. ولكن لن تنتهي إسرائيل أبدًا بالمزيد من الدعاء عليها في ميكروفونات المساجد، ولن يرعبها مطلقًا المزيد من الصراخ عليها أمام كاميرات الإعلام.. ولكنها تتألم كثيرًا كلما تماسكنا وإزداد وعينا بقيمة وعظمة مصر التي تستحق مجهودات الجميع لبنائها بعيدًا عن الصرخات الجنونية والبطولات المزيفة لنزلاء عنبر الخطرين.
الجريدة الرسمية