رئيس التحرير
عصام كامل

«عُملة المساجين».. ماذا فعل ارتفاع أسعار السجائر في حياة «سكان الزنازين»

فيتو

السجن عالم مواز لعالمنا الذي نعيشه، جدرانه تفرض قوانينها الخاصة التي لا تشبه بأي حال من الأحوال تلك التي نعرفها، حتى عاداته وتقاليده بل ومصطلحاته غير التي نحياها خارج أسواره.


وبطبيعة الحال فإن عُملة السجن ليست هي العملة التي نستخدمها، فالجنيه الذي تنخفض قيمته يوميا أمام الدولار خارج السجن حاله كذلك أمام السجائر بين جدران الحبس الصماء، فـ"السجائر" نقود السجناء سواء كانوا من المدخنين أو من الكارهين للدخان، وهي نافذة وسيلتهم لضمان حياة كريمة في عالم أبجديته هي الجريمة.

وفي السنوات الأخيرة شهدت أسعار السجائر قفزات وزيادة تلو الأخرى، وآخرها تلك التي أقرها مجلس النواب الشهر الماضي في إطار تطبيق قانون الضريبة على القيمة المضافة، ومع هذه الزيادة وكل زيادة تزداد هموم أهالي السجناء خاصة "الغلابة" منهم، فالزيادة تعني مضاعفة ميزانية الزيارات التي لا تخلو بأي حال من الأحوال من السجائر.


 السيجارة.. عُملة السجن الرسمية

لم يكن إبراهيم، الشاب العشريني، يدري شيئًا عن السجن وقوانينه حتى قاده قدره لدخول هذا العالم إثر انضمامه لمتهمي القضية المعروفة بـ"أحداث شغب دار السلام" ليتعرف عن قرب على أسراره، وكان السر الأول الذي تعلمه خلف الأسوار أنه "لا كرامة لسجين بدون سجائره".. وأنها العملة الرسمية المتداولة داخل السجن، وبها يمكن أن "يفوت السجين في الحديد".

وعن هذا السر حكى إبراهيم "فلوسنا بتبقى في الأمانات وبتبقى عبارة عن بونات كافيتيريا، ولما بنحتاج نرشي السجان أو المخبر بنعمل ده بالسجاير "أنا ممكن أعمل أي حاجة ممكن أتخيلها بالسجاير، المصلحة بـ5 علب، أروح العيادة بعلبة، محتاج اتنقل من عنبر لعنبر تاني بخرطوشة أو اتنين وكله بسعره".

مع مرور الوقت عليه خلف القضبان أصبح إبراهيم أكثر وعيًا بأن السجائر وسيلته لكي يعيش ملكًا في سجنه، وأن يحصل على مبتغاه من الراحة، فكان يرحم نفسه من النبطشية التي يُجبر فيها على غسيل الأطباق والتنظيف أسبوعيًا، بمنح السجناء "الغلابة" بعض من سجائره لكي يقوموا بهذا العمل الشاق، فيستفيد هو بالراحة وهم بالحصول على سجائر يمنحوها لذويهم ليقوموا ببيعها فيتمكنوا من زيارتهم مرة أخرى.

وبعدما أًصبح إبراهيم ضليعًا بالسجن وقوانينه امتلك معرفة باحتياج كل سجين للسجائر وفقًا لوضعه القانوني، فالمحكوم عليه مسموح لأهله بزيارته كل أسبوعين، وإذا كان مدخنًا فإن أقل ما يحتاجه من السجائر 4 خراطيش غير 2 أو 1 للرشوة، أما المحبوس على ذمة التحقيق فزيارته تكون أسبوعية ويحتاج نصف ما يحتاجه المحكوم عليه من السجائر.

وعلى الرغم من سجنه وانفصاله عن العالم الخارجي فإن نار الغلاء طالت إبراهيم، وأثرت عليه تمامًا ككل السجناء الذين يعتمدون في حياتهم بين جدران السجن على السجائر، حتى إنه فكر هو وبعض المساجين بعد الزيادة الأخيرة في التوقف عن التدخين رفقا بأسرهم "في ناس بطلت فعلا بس لسه للأسف بنجيبها عشان نسلك أمورنا".


إبراهيم: بنرشي السجان أو المخبر بالسجاير لأن فلوسنا في الأمانات

أما بالنسبة لعائلته فلم يكن لديهم بدًا من مواجهة واقع عاشه إبراهيم ونقله إليهم "السجائر أهم حاجة في السجن وهي نصف الزيارة"، فأصبحت هذه الزيارات حملًا وهمًا يستنزف طاقة العائلة وأموالها مع كل زيادة للأسعار، والزيادة الأخيرة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير فقررت أسرة إبراهيم كرهًا تقليص كمية السجائر واكتفوا فقط بخرطوشتين، وهذا الهم الذي يستشعره إبراهيم أيضًا دفعه إلى طلب السجائر من أصدقائه لكي لا تتحمل أسرته وحدها عبء المصاريف.


السجائر أهم حاجة في السجن وهي نصف الزيارة

سعيد، شاب عشريني تعرض للحبس ثلاث مرات في قضايا مختلفة آخرهم بتهمة إثارة الشغب بمباراة الأهلي والوداد المغربي باستاد برج العرب، لم يكن يومًا من هواة التدخين، لكن الحبس دفعه إلى السيجارة دفعًا فأصبحت رفيقته بين الجدران الصماء "الحياة في السجن كانت عبارة عن سجاير وشاي وأكل.. ده إذا كان ليك نفس أصلًا".

كان الشاب العشريني ينتظر زيارات أسرته بفارغ الصبر، فقد كانت هي مصدر معظم السجائر التي كان يحصل عليها.

أدرك سعيد من خبرته خلف الأسوار أن "السجائر مقامات" في السجن، وأن الفرق بين أنواعها تمامًا كالفرق بين الجنيه والدولار، فسجائر "الناس اللي تحت" هي "البوكس" و"الكليوباترا"، أما من يملك السجائر الأجنبي فيعيش في السجن سلطانًا، ويحصل على حرية كاملة وتدليل إلى درجة لا يمكن لأحد تخيلها " ممكن بخرطوشة سجاير أجيب سجين متسول يهش الدبان من عليا، ومن الآخر اللي مش معاه سجاير في السجن كلمة الإهانة قليلة على اللي بيتعرض له".


سعيد: السجائر مقامات في السجن.. والفرق بين أنواعها زي الفرق بين الجنيه والدولار

كان سعيد يمتلك محل كوافير حريمي، تحول كامل دخله إلى مصدر مصاريفه في السجن، فقد كانت أسرته تضع ميزانية لزيارته تسمح له بقضاء فترة سجنه في سلام، وكانت هناك ميزانية مخصصة للسجائر والأموال التي تمكنه من شراء السجائر من كافيتريا السجن حال نفادها على الرغم من أن أسعارها مضاعفة، لكن الأسرة آمنت أن إهانة القرش أهون من إهانة الابن، لكن رغمًا عنهم وعنه ومع كل زيادة في الأسعار تقلصت كمية السجائر في الزيارة واكتفت الأسرة بخرطوشتين فقط مع كل زيارة.


زيارة سعيد لم تخل يومًا من السجائر على الرغم من ارتفاع الأسعار

إسلام، شاب ثلاثيني، كان محبوسا لمدة ثلاث سنوات في قضية سياسية ولم يخرج من السجن إلا منذ 6 أشهر فقط، يحكي عن السجائر في السجن السياسي وكيف أنها لا تحظى بالأهمية ذاتها التي تحظى بها في مختلف السجون "غالبية الموجودين في المعتقلات السياسية من التيارات الإسلامية ومعظمهم غير مدخنين ويرفضوا التعامل بالسجائر"، هذا ما يجعل السجناء المدخنين في ورطة ليس فقط لأن السجائر ليست عملة مهمة كما هي عليه في مختلف السجون، لكن بسبب رفض عدد كبير من السجناء الإسلاميين تدخين السجائر داخل الزنزانة مما يضطر المدخنين من السجناء إشعال سجائرهم وتدخينها من "النضارة" وهي "الفتحة" الموجودة في باب الزنزانة.


إسلام: أنت مدخن؟ إذًا أنت غير مرحب بك في زنازين التيار الإسلامي

كان والده نزيلًا في سجن المنيا، بينما كان مصطفى، ولده الشاب، حريصًا في الزيارتين الشهريتين التي يذهب فيهما لرؤية والده على إحضار خرطوشة السجائر على الرغم من أنه ووالده لم يكونا يومًا من المدخنين، لكن الواقع فرض عليهما هذا الأمر الكريه إلى نفسيهما لكي يتمكن الأب من أن "يمشي أموره" خلف الأسوار، فكل شيء في السجن كان له سعره كما يؤكد مصطفى "رغيف العيش.. والطعمية كله بيتباع بالسجائر"، ويؤكد "السجائر كان ليها ميزانية في كل زيارة وكل زيادة في سعرها كانت بالنسبة لنا هم ما بعده هم".

مصطفى: رغيف العيش والطعمية.. كله بيتباع بالسجائر جوه السجن

كانت والدة سيف ذو الثلاثين عامًا المحبوس على ذمة إحدى قضايا المخدرات، تقاوم آلامها الناتجة عن مرض السرطان وعن ضعف الدخل المادي بعد وفاة زوجها، كانت تجمع كل ما تملك من مال فقط لكي تتمكن من شراء السجائر اللازمة التي سيحتاجها ابنها النحيل لكي لا يُهان في سجنه، "السجائر دي أهم حاجة والواد بيوصيني عليها في كل زيارة بيقولي عشان يقدر يعيش جوه"، وعن الزيادة الأخيرة في أسعارها قالت والدة سيف والحزن يتسلل من كلماتها "هي المشكلة بس في الزيادة دي؟ ده من ساعة ما دخل السجن وبلاقي زيادة ورا زيادة وأنا قربت أشحت وهو بيقولي إنه ما يقدرش يعيش جوا السجن من غيرها".


والدة سيف: ابني بيوصيني على السجائر في كل زيارة عشان يقدر يعيش جوه.
الجريدة الرسمية