رئيس التحرير
عصام كامل

يوم المرحمة


وردت هذه الكلمة الخالدة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله مكة، فاتحًا في العشرين من شهر رمضان المبارك، تعديلًا لمقولة سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، عندما مر بأبي سفيان في كتيبة الأنصار، فقال: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا" ولما وصل الخبر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، استنكره وقال تلك الكلمة الخالدة، أسوق هذه العبارة في يوم مولد خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أشاع بعض أتباعه أنه حارب أعمامه وقتل بعضهم دفاعا عن العقيدة، أسوقها إلى كل من يظنون أن جهاد الظالم هو القتل بالسيف، حيث أخرجت مكة وهي قرية ظالمة وقتها، أشرف خلق الله من أرضها، وادعت أنه ساحر وكاذب ومجنون، وأنه جاء ليفرق بين المرء وأخيه، والابن لأبيه، والمرأة وزوجها ومع ذلك لم يحاربها إلا بعدما أن له بذلك، أسوقها إلى هؤلاء الخوارج الذين يرون في قتل عصاة المسلمين وظالميهم واجبا دينيا والدين من ذلك براء.. أسوقها إلى كل من ظلموا ويظلمون على وجه هذه البسيطة ليكن موعدكم الله لا هذه الحياة، ليكن موعدكم الحياة الآخرة فهناك سوف يقتص حكم عدل من كل ظالم جبار، ولنا في رسول الإسلام القدوة والمثل.


ففي مثل هذا اليوم ولد خير البرية محمد بن عبدالله، ولد يتيما، فقد مات أبوه وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو دون العاشرة وتكفل عمه أبو طالب برعايته، والاهتمام به بعد وفاة جده عبد المطلب، ولو حللنا تلك الجوانب النفسية لشخصيته في هذه المرحلة العمرية، فسنجد أنه تعرض لأكثر من موقف كلها تنبئ بمستقبل مظلم لهذا الفتى الذي فقد الأب والأم، ويتخذها علماء النفس وبعض الناس سبة في جبين أمثاله فهو لم يرعه أب ولم تسهر عليه أم، ومع ذلك فقد أدبه ربه ورعاه "وإنك لعلى خلق عظيم".

بعد هذه المرحلة العمرية التي تتكون فيها الصفات الشخصية للإنسان، ومع دخول المرحلة الثانية من حياته (مرحلة العشرينات) وحسبما يؤكد المؤرخون والرواة فقد اشتغل برعي الغنم، والتجول بها في الصحراء بحثا عن مرعى، إلى جانب التجارة، ولم يكن له ماله الخاص، بل إنه كان يعمل أجيرا عند أصحاب الأموال، لكنه عرف بالصدق والأمانة، فبعثت له السيدة خديجة بنت خويلد للعمل لديها لما اشتهر به من صدق وأمانة، وطلبت منه الزواج فوافق على الفور، ولو كان في زماننا هذا لتقول عليه البعض وأنكروا عليه ذلك، ومع ذلك فقد احتمل الأمر راضيا مرضيا، كما أن تلك الأعمال التي شغلها صلى الله عليه وسلم لو قيست بفكر شبابنا اليوم بل وحتى بفكر شباب قريش يومها فإنها أعمال متدنية ومع ذلك فقد عمل بها، ولم يشعر بشيء من المهانة كما يفعل بعض شبابنا اليوم الذين يبكون على ما وصل إليه حالهم ويتباكون عليه.

وفي سن الأربعين ومع تباشير بعثته صلى الله عليه وسلم، عندما نزل عليه الوحي في غار ثور، وذهب إلى ورقة بن نوفل أنبأه بخروجه من مكة: وقَالَ لَهُ (دون تردُّد): هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟" قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا".

وعاداه حتى أقرباؤه وأعمامهم ممن تحالفوا مع قومهم ضده، ومع ذلك فلم يتزعزع في عقيدته، ولم يتسرب إليه شر إليهم قط، بل إنه حينما ذهب إلى الطائف وتعرض للأذى والجحود والنكران من صبيانها ورجالها، وجاءه جبريل الأمين يخبره بأنه لو أراد لأطبق عليهم الأخشبين، فرفض ذلك وقال قولته المشهورة "عسى الله أن يخرج من بين أظهرهم من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".

هكذا فعل الرحمة المهداة مع أعدائه الكفار والمشركين حينما شنوا عليه حروب التشكيك والتسفيه والاتهام بالجنون، بينما لم يفعل ذلك بعض أتباعه الذين قتلوا ويقتلون الركع السجود.

حاربته مكة وأخرجته من أحب بلاد الله إلى قلبه وحاصرته وقومه في الشعب، وحرضوا عليه السفهاء والأطفال والعبيد، وناصبوه العداء أكثر من عشرة أعوام، قتلوا خلالها العديد من أصحابه وأتباعه ولو شاء لاتخذ ذلك سبيلا للثأر منهم، والقضاء عليهم والانتقام منهم، ومع ذلك فإنه حينما فتح الله عليه مكة ودخلها وحل بالمشركين والكفار ما حل من خوف وألم وتوجس، سألهم: ما تظنون أني فاعل بكم قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم فقال قولته الخالدة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
الجريدة الرسمية