رئيس التحرير
عصام كامل

علي حزين يكتب: «التوتو».. قصة قصيرة

على حزين
على حزين

في الصباح يستيقظ الجميع.. يجلس كل واحد مكانه.. على فرشته مستعد ومتأهب لسماع صوت سقط أقدام.. باش شاويش سجان.. وهو يصيح مد صوته الجهوري: 

ــ صباح الخير يا حرامية يا حلوين؟
"عرفت فيما بعد.. أن هذه الجملة التي يقولها "الباش سجان".. للحرامية ما هي إلا إشارة.. أو سيم فيما بينهم.. على أنه كله تمام.. وما في تفتيش من إدارة المصلحة.. أو من فرقة مكافحة شغب السجون.. وإن الأمن مستتب. 
دوران المفتاح في القفل.. لا يشعر به إلا من جرب السجن..
ما أن ينفتح الباب حتى تنطلق على أثرها أصوات المساجين.. أسمع أحدهم يقول.
ــ يا عم سيبها على الله.. يا عم قول يا رب.. يا عم سيبها على الله.. يا عم قول يا رب..
ويظل هكذا يدور ويردد.. في كل ممرات العنبر.. بأدوار السجن إلا ربع حتى يخرج من باب الكبير. 
وآخر ينادي.
ــ أشغال.. الأشغال بسرعة.. الأشغال.. الأشغال بسرعة.
وثالث ينادي وهو يطرق على أبواب الزنازين.. ومعه صفيحة الفول.. وسبت العيش..
ــ الفطار. الجراية ، يالله الفطار. الجراية..
يقترب صوت الشاويش من الزنزانة التي انا فيها..ادار المفتاح في القفل الحديدي وكأن المفتاح لا يريد أن يفتح.. وأخيرا فتح بصعوبة بالغة.. ربما لأن الاقفال قد صدئت.. فلا تفتح الا بصعوبة بالغة.. يرمي الصباح علينا.. ويمضي ليفتح زنزانة أخرى..وهكذا دواليك، يندفع كل من في الزنزانة للخارج..للحاق بمكان في طابور التشطيف بالحمامات المزدحمة.. اما انا قادتني قدماي إلى خارج الزنزانة.. عبر الممر الضيق.. وقفت.. لأري واسمع عجب العجاب.. ازدحام رهيب.. في المبني المكون من اربع طوابق فقط لا غير.. كل طابق به ما يقرب من ستة عشر زنزانة.. أما تأديب.. أو تحقيقات بلبسهم الأبيض المميز.. واما حبس احتياطي.. وقد قسمت هذه الزنازين إلى اقسام.. زنازين قتل.. مخدرات.. دعارة.. شكات بدون رصيد.. الخ....
وقفت أمام دورة المياه.. التي بجوار زنزانتي.. كانت مزدحمة على الأخر.. الناس واقفون فيها شبه طابور.. في انتظار قضاء الحاجه.. وطابور لتشطيف وغسل الوجه ، والوضوء كذلك.. هرج ، ومرج.. يملأ المكان.. والكل يتدافع ويتعارك.. ليأخذ مكان غيره.. بحجة أنه محصور.. ومنهم من يدق على باب الحمام أكثر من مرة.. ومن بالداخل يتنحنح له ليستحثه على الصبر.. والاخر لا يستطيع الانتظار أكثر من ذلك.. انتظرت حتى خف الناس.. وبقي النذر اليسير.. اخذت دوري في الطابور.. نظرة في ساعة معصمي.. كانت تشير إلى الساعة التاسعة صباحا.. حاولت أن ابحث عن أحد اعرفه.. واحد من الواقفين بجواري تعرف على.. وعرف اني مستجد.. وامتد التعارف بيننا إلى أن جاء دوري.. الحمام يشبه بركة مجاري.. القاذورات طافحة.. القوالب وضعت في الماء.. بعضها غرق.. تخطيت فوق الطوب.. لم اطق المنظر.. ولا الرائحة الكريهة.. خرجت مسرعا.. فوجدت طابور التشطيف قد انتهى.. غسلت يداي ، توضأت وخرجت.. دخلت الزنزانة التي سُكنت فيها.. فردت بشكيري وصليت.. ثم جلست في مكاني.. عزم على احدهم بكوب شاي ساخن.. كنت في اشد الحاجة اليه.. اخذته وشكرته.. اشعلت سيجارة كيلوبترا على إثرها.. ثم سألته
ــ كيف احصل على هذا الكائن.. الذي تصنعون عليه الشاي..؟؟
ضحك احدهم وهو يقول لي..
ــ " التوتو " واحد من المساجين بيصنعه هنا في داخل السجن..
ــ......
ــ " كل جاحه عوزها هتلقيها بتتباع هنا..؟
دهشت لكلامه.. ثم سألته مرة أخرى..
ــ " كيف "..؟!
ــ الذين في السجن اهليهم بيجيبوا لهم اللي يحتاجوه وهم يبيعوه داخل السجن
ــ كل المساجين
ــ لا، ولكن من يريد أن يفعل ذلك...
وانا لم ازال اتكلم مع الرجل.. الذي اعطاني كوب الشاي.. والذي عرفت فيما بعد أنه عم " سيد ".. سمعت من يناديني بالخارج.. خرجت لأتبين واستوضح الأمر.. فوجدت البش شاويش السجن.. بيده حزمة من الملفات الورقية.. يقرأ منها الأسماء.. ومعه المساجين الذين حضر معي ليلة امس.. اقتربت منه لا خبره اني صاحب الاسم الذي كان يُنادي عليه.. فوجدته يقول لي بنبرة حادة..
ــ " عرض الاراد على مأمور....
واصطحبنا إلى مكتب المأمور..اوقفنا طابور أمام المكتب.. طلب منا الصمت والهدوء.. حتى يستطيع كل واحد منا.. يسمع اسمه عندما ينادي عليه.. اشعلت سيجارة أخيرة كانت في جيبي.. نظرت إلى خارج السجن.. من خلال شباك حديد كبير.. فجاءني المشهد قوي.. ورحت اتذكر تفاصيله
" تدخل علينا بيت اخي من الخارج.. منهارة ، مضروبة وهي تبكي.. سألتها أمها.. بعدما اقتربت منها.. وهزتها بعنف.. "
ــ ما بك..؟!.. ولماذا تأخرتي حتى الآن..؟!!..
فذاد نحيبها.. واجهاشا بالبكاء.. وعندما ضغطنا عليها.. أخبرتنا بما حدث معها
ــ بعض الشباب كل يوم.. يقفوا على ناصية الشارع.. يعاكسون البنات... واليوم تحرشوا بي.. فشتمتهم.. فضربوني...
حينها جن جنوني.. وطار عقلي من رأسي.. عندما سمعت منها هذا الكلام.. ولم انتظر أن تكمل الحكاية.. قمت مندفعًا كالثور الهائج.. طلبت منها أن تأتي معي.. لترينهم ، هؤلاء الاوغاد.. فكيف يجرئون على ذلك.. تبا لكم والف تب.. الا يعلمون من تكون هذه.. انها بنت اخي..الويل لهم والثبور.. حاول بعض أفراد اقاربي..أن يمنعوني من الذهاب اليهم بمفردي.. ولكني رفضت ذلك.. وأصررت على ملاقاتهم وحدي.. حتى اعطيهم درسا في الاخلاق.. لا ولم ينسونه ابدا ".
يغمزني من بجواري.. يأتيني الصوت في اذني قوياُ.. ينادي على اسمي..
ـــ.......
ـــ افندم
ـــ ما ترد يا بن الكـ......"
ـــ لمؤاخذه يا فندم
ادخل خلفه إلى مكتب المأمور.. فأشعر بدفأ التكيف.. حدَّ جني بنظرة حادة وفاحصة.. وانا انظر في الأرض.. برهة غرس فيها عينيه في الأوراق.. التي امامه على المكتب.. بدافع الفضول.. سرقت بعض النظرات.. تلفت نحو لأستطلع مكتب المأمور.. وهو منشغل يتنقل بعض الصفحات فوق المكتب... برهة صمت كئيبة.. لا يقطعها الا صوت التكيف الهادئ.. واصوات المساجين القادمة من بعيد.. عاد فيها المشهد من جديد.. وتسلل إلى رأسي..
" كانوا لا يزالوا واقفون في مكانهم.. اقتربت منهم وكلي حنق وغضب... أخذت انصحتهم.. وابين لهم أن هذا الذي يفعلونه.. لا يصح.. ولا يجوز.. وأنه عيب.. وانه غير اخلاقي.. فنظر بعضهم إلى بعض.. ثم انفلتوا بالضحك.. فبدأت اذكرهم بعقاب الله.. وان هذا حرام.. وانه كما تدين تدان.. فازداد ضحكهم وسخريتهم مني فكلت لهم الشتائم والسباب.. تشابكنا.. وما أن مددت يدي على واحدٍ منهم لأضربه حتى تجمعوا على كالكلاب المسعورة.. وضربوني حتى وقعت على الأرض..وسال الدم من وجهي "..
يأتيني صوت جهوري فجاءة.. بنبرة حادة وقوية.. يسألني
ـــ أسمك..؟.
ـــ.........
ــ عمرك.. ؟.
ــ.......
ــ تهمتك.. ؟.
ـــ قتل افضي إلى موت
ــ كنت بتشتغل ايه في بره..؟.
ــ طالب جامعي..
ــ تخزين.. انصراف.. غيره..
يأخذني الشاويش من يدي.. يذهب بي حيث ما كنت.. خارج المكتب..
ــ اجلس مكانك لما نخلص العرض
يسألني احدهم بشيء من الاهتمام.. والفضول..
ــ ماذا قال لك ؟.
ــ تخزين
ــ بختك يا عم..
نظرت اليه باستغراب.. واندهاش لما قال.. فجاء السؤال في هذه المرة من أحد غيره ؟
ــ انت كنت بتشتغل ايه بره ؟
ــ.........
اجلس في صمت.. استدعي المشهد من جديد.. لأكمل تفاصيل الحكاية..
" تدخل بعض المارة.. خلصوني من بين ايديهم.. وابنتَ اخي تصرخ.. قمت من على الأرض.. لأكتشف أن ثيابي تمزقت بأيديهم.. والدم يسيل من على وجهي.. وبعض أماكن من جسدي.. فبعضهم كان معه سلاح أبيض.. واخر بيده خاتم به فص من حديد.. لون الدم الذي رايته يسيل مني.. وصراخ بنت اخي.. وضحكهم على ، واستهزائهم بي.. جعلني اثور عليهم.. وأغضب من جديد.. أمسكت بقطعة من الخشب.. وجريت على اثنان منهم.. وما أن هويت عليهما حتى كانت المفاجئة الرهيبة ، الصادمة.. طفلة صغيرة كانت تتوسط هم.. وقعت ضربتي عليها بالخطأ.. جلست مكاني مبهوتًا.. مذهولًا من هول الصدمة.. القيت ما في يدي.. ووضعت يدي على وجهي.. في محاولة لاستيعاب ما جري.. فأقبلوا على فازعين.. يريدون أن يفتكوا بي.. لولا تدخل بعض المارة.. وانقذوني من بين ايديهم بأعجوبة.. وبالعافية أخذوني منهم.. "
يهزني بعنف من بجواري.. حتى انتبه.. ليقول ليّ
ــ اصحي.. فوق.. العرض خلص خلاص
يعود بنا الشاويش إلى العنبر.. مارًا بنا على حديقة السجن الخارجية.. وما أن دخلت العنبر حتى أسمع من يقول
ــ يا عم سيبها لله... يا عم قول يا رب
هذا صوت " حسن كلبه " هكذا يسمونه المساجين.. يدور في ممرات وردهات السجن.. كل يوم يوقظهم بهذه الكلمات..ينتظرونه كل صباح.. ليتهيئوا ويستعدوا للخروج من الزنازين.. والذهاب إلى الحمامات.. هكذا صار طقسًا يوميًا.. ألفته واعتدت عليه.. اسمع صوت عم " حسين " وهو يرد خلفه.. متهكمًا منه وساخرا.
ــ يا عم سيبها لله يا عم قول يا رب.. يا عم سيبها لله يا عم قول يا رب
ـــ امال هنسيبها على مين.. يابن الـ..... " عليك انت يا حسن كلبة "..
إذا هذا الصوت صوت " حسن كلبه ".. انا لا ادري لماذا سموه بهذا الاسم... منذ اتيت إلى السجن.. وانا اسمعهم ينادونه به هكذا " حسن كلبة "...... حتمًا ولابد أن لأسمه حكاية طريفة.. أجهلها.. بالتأكيد.. ولا اعلمها..
ما أن يقترب صوته من زنزانتي.. حتى أتهيئ للخروج.. والذهاب إلى الحمام.. وبيدي ركوة من صفيح..
"علبة مربة كبيرة.. قسمتها نصفين.. بعدما افرغت ما بداخلها.. صنعت منها اناء لطهي الطعام.. والنصف الاخر لأسخن فيه الماء.. كل صباح حتى اتمكن من قضاء حاجتي "..
سماع دوران المفتاح في القفل.. لا يشعر به لا المساجين..
وما أن ينفتح الباب.. حتى يتدافع المساجين نحو الحمامات.. اقف في أحد الطوابير المصطفة أمام الحمامات الطافحة.. والروائح الكريهة.. تعودت انفي عليها.. انتظر دوري في الدخول.. اسمع الاصوات وهي تتداخل.. وتعلو في عراك وشجار.. من له الحق في الدخول أولا.. فأقوم بالصلح والتوافق بين الجميع... وعندما يأتي دوري في الدخول.. عليّ أن أمشي بحذر.. وحيطة على بعض الطوب الغارق في الماء.. حتى لا اسبح في لجة الفضلات السابحة على وجه الماء.. اسمع من يطرق باب الحمام بقوة.. وعنف ليستحثني على الانتهاء سريعًا.. لا نه لا يستطيع أن ينتظر اكتر ذلك..
ــ حاضر.. انتظر قليلا.. حاضر..
حتى صار طقس يومي.. ممل.. وخانق ، ومميتًا.. اسرع في قضاء حاجتي.. في بضع دقائق حتى يتمكن غيري من الدخول.. ليقضي حاجته هو أيضا... اخرج من الحمام.. وفي يدي الركوة.. وبها قليل من الماء الساخن.. ابقيته حتى اغسل وجهي واتوضأ.. أنتظر دوري في الطابور الاخر.. الذي هو على حوض الحنفيات..
ادخل الزنزانة التي أسكن فيها أفترش شيئا نظيفا اصلى عليه.. اقرأ وردي اليومي وعندما افرغ من القراءة.. اشعر بالجوع يفترس احشائي.. فرائحة الطعمية السخنة وهي تطش في الزيت تغريني.. اخرج وقد وضعت علبة سجائر في جيبي فهذه هي العملة المعتمدة في السجن..
" من يضبط معه نقود ، أو عملة غيرها.. يحرر له محضر بذلك.. بمعرفة إدارة السجن.. ويلقي في التأديب.. في السجن الانفرادي.. "
تقودني قدماي حيث.. يجلس بائع الطعمية.. في زاوية بالممر.. بجوار زنزانة الشكات.. وقد تجمع حوله بعض المساجين ليشتروا منه.. وهو لا يلاهم عليهم..
ــ الطعمبة الوحدة بسيجارتين.؟.
ــ اعطني خمس طعميات لو سمحت..
أخذهم واعود ادراجي..اجلس على فراشي " النمرة " أضعهم امامه.. مع جراية السجن..وهي عبار عن "ثلاث ارغفة بلدي" وغرفت فول مدمس.. لم يتم طاهيه جيدا.. اغسله من المواد الحافظة.. ثم اقشره بالوحدة.. واضعه في قليل من الماء والزيت.. في نصف العلبة الصفيح.. واقوم بوضعهم على نار" التوتو "..
" عبارة عن وابور شرطان.. يصنع ويباع في السجن خلسة وفي الخفاء.. وله اشكال واحجام مختلفة.. وكل واحد بثمنه "..
اشتريته من غرفة الحرامية.. بأربع علب سجائر.. وزجاجة زيت بها سولار مخلوط بالماء.. بعلبتين سجائر ايضًا..
اتناول فطاري.. ثم اشرب الشاي الذي اصنعه لنفسي على "التوتو".. ثم اشعل سيجارتي أخرى.. بعدما اقوم بلم بقايا الطعام.. وما يلزم غسيله إذا ما عدت من " التروض "
" والتروض " عبارة عن مكان خارج السجن حول المبني القديم المتهالك.. يشبه فناء مدرسة.. مفروش بأشعة الشمس.. ومزروع ببعض الاشجار.. يسمحوا لنا بالخروج اليه.. وفتح باب العنبر لمدة ساعة أو ساعتين على حد أقصى.. لنقوم ببعض التمارين السويدي.. كالمشي.. والجري.. وربما القفز ايضًا.. المهم تأخذ حمام الشمس.. حتى لا تصاب عظامنا بالهشاشة.. ويلتقي بعض المساجين الذين ليسوا في العنبر.. بالعنابر والزنزانات الأخرى.. وما أن تسمع صوت السفارة.. حتى ينتهي كل شيء.. وندخل إلى العنبر.. الذي لا يري الشمس ".
طويت فرشتي بعضها لي بعض.. حتى لا يدوسها أحد في غيابي.. ثم نزلت مسرعا إلى الحوش.. أتريض.. ولأمارس بعض التمرينات الصباحية.. السويدي وأستمتع بأشعة الشمس الدافئة....
Advertisements
الجريدة الرسمية