رئيس التحرير
عصام كامل

مصطفى عنز يكتب: «زمن الريس عبد الرازق»

مصطفى عنز
مصطفى عنز

أتحدث عن شخصية قيادية محترمة، نادرة خلال تلك الفترة، تكاد تكون تلاشت من مجتمعنا المصرى بأخلاقها، وصفاتها، وقوانينها، المربى الفاضل عبد الرازق القطرى، مدير مدرسة بيلا الإعدادية بنات، بمحافظة كفر الشيخ، سابقًا، تلك الشخصية المثالية التي لن تعوضها الأيام مهما أغدقت بقيادات أخرى.


فكان شخصًا حكيمًا، وسياسيًا بارعًا مع الطلاب، والمعلمين، وكافة العاملين بالمدرسة، يتمتع بدماثة الخلق، وكان متمكنًا من الإدارة، وماهرًا في فهم الآخرين، وتبصر سلوكهم، متفتح على مايدور في أذهانهم، إذا تحدث صمت له الجميع، عاصرته أبًا كريمًا، ومعلمًا فاضلًا، ومديرًا ناجحًا، وتتلمذت على يديه.

ولا أنسى يوم أن قام بعمل إفطارًا جماعيًا للعاملين بالمدرسة في إحدى أيام شهر رمضان المبارك، وتناول معهم الإفطار في سابقة لم تحدث من نوعها في مدارس بيلا، فقد كان يتسم بالتواضع والرقة واللباقة، وأيضًا يلتزم بالشدة والحسم.

الأستاذ «عبد الرازق» أو الريس كما لقبه المعلمين، واتخذت من خلفهم ذلك اللقب الشرفى الذي اعتدت على منادته به خلال فترة دراستى بالمدرسة، ولا أخفى عليكم سرًا فقد كنت أحبه حبًا جمًا، ومازالت، ولكننى على النقيض من ذلك كنت أهابه كثيرًا، فمن من الطلاب لم يتذوق مرارة عصاه القاسية التي كانت تهذب العقول المتمردة.

أتذكر حينما كان يذهب معنا في الرحلات التي أتشوق إلى ساعة منها الآن، فيجلس معنا أرضًا، ويشاركنا وجبة الغداء، ثم يتفرغ إلينا، ويلعب معنا «الكوتشينة» في تواضع، ومن ثم يتجول معنا بصحبة بعض الطلاب والمعلمين، ليصنع بذلك مزيجًا من الحب والاحترام بينه وبين زملائى الطلاب.

كنا نضبط الساعة على حضوره وكانت قبيل الساعة السابعة صباحًا، وكان مكتبه الكبير، يقع على اليمين بعد الدخول من البوابة الرئيسية لمدرسة بيلا الإعدادية بنات، وقد تعودنا أن نراه واقفًا شامخًا، كالجبل الأشم، والويل كل الويل لمن يأتى إلى الطابور متأخرًا من الطلاب أو المعلمين.

لم يسلم أيضًا الطالبات من التهذيب، والانضباط، فقد كان يقوم بالمرور على الفصول يوميًا بنفسه، لمتابعة سير العملية التعليمية، ومشاهدة الحالة العامة للطلاب، وكم من مرة أمر بفصل الكثير من الطلبة والطالبات ممن ساروا على الموضة، وأطالوا شعورهم، وارتدوا الملابس التي لا تليق بالمدرسة، التي خرجت أجيالًا ممن أفادوا المجتمع في كافة المجالات، فكان حريصًا على أن يرفع شعار التربية قبل التعليم.

رأيته بنفسى وهو يقف أسفل أسوار المدرسة، لمنع الطلاب من الهروب، ولعل كان أبرز تلك المواقف التي حدثت معى شخصيًا حينما واجهت أحد الطلبة الأشقياء، ومنعته من الهروب من المدرسة، امتثالًا لتعليمات الإدارة، ليباغتنى هذا الطالب ويعقرنى في يدى، وينقض على جسدى النحيف وقتها كما تنقض الحيوانات البرية على فريستها، ومن ثم يلحق به مدير المدرسة ويلقنه علقة ساخنة لا أنساها.

وكان يكفى الطلاب، ومن قبلهم المعلمين، أن ينظر إليهم الريس نظرة واحدة كى يلتزم الجميع، إجلالًا واحترامًا منهم، حيث أنه كان لا يبخل على أحد بمشورته، ونصائحه، وكانت له مكانة كبيرة في نفوسنا، وكان الجميع يثق في إخلاصه، ونبله، وقدرته على احتواء الصغير قبل الكبير.

مازالت على لقاء به حتى الآن، وحينما أجده في أي مكان أذهب إليه وأقوم بالسلام عليه، واتذكر معه تلك الأيام التي لن تتكرر مرة أخرى، وكذلك اتذكر مع الأصدقاء تلك الأيام الخالية، حينما كانت أكثر همومنا المذاكرة، وكتابة الواجبات المنزلية.

ومن الأشياء النادرة، أن «الريس عبد الرازق»، يشرف الآن على إدارة مدرسة السيد الشيخ الخاصة ببيلا، رغم بلوغه سن المعاش منذ أعوام مضت، ولكن صاحب المدرسة كانت له رؤية مختلفة، وكان حريص على أن يكون قائد تلك المؤسسة العريقة الريس، لما له من فن الإدارة، ومعرفته بأمور التربية والتعليم، ونجاحه الذي ترك بصمة كبيرة وواضحة في مدرسة بيلا الإعدادية بنات، لا ينكرها إلا أرمد أو حاقد أو جاهل.

فما أحوجنا خلال تلك الفترة لتلك الشخصية بعدما تدهورت التربية قبل التعليم، وسلكت طريقًا شائكًا، نفتقر إلى القيم الإنسانية النبيلة، أكثر من تجديد طبعات الكتب، وابتكار الاستراتيجيات الفارغة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. نفتقد القيادات الحكيمة التي تحدثت عن شخصية منهم.. فأطال الله في عمر الريس عبد الرازق ومتعه بالصحة والعافية.. قولوا آمين.. !
الجريدة الرسمية