رئيس التحرير
عصام كامل

الثورة المعلوماتية وأثرها على شكل الدولة السياسي


أن إحداثيات الثورة الصناعية الرابعة التي يميزها الذكاء الصناعي وتضخم دور الإنترنت لتشكل ثورة في الانفتاح المعلوماتي في كل دول العالم، وأصبح الانعزال الذي تمارسه دول قليلة مثل كوريا الشمالية كقبائل الهنود الحمر ولا يستطيع أحد أن يراهن على استمرارية نظم منغلقة في ظل العولمة الثقافية ليصبح العالم قرية واحدة وسوق حر عالمي حاكم ومسيطر بقوانينه واتفاقياته وهو أهم أدوات التنمية الاقتصادية.


منذ فجر التاريخ وعندما نشأت أول دولة مركزية تاريخيا وهي مصر، كان العلم والمعلومات سر من أسرار الكهنة في خدمة النظام السياسي وقوته، والدولة تطورت لتصبح القوة المنظمة للقوي والمجموعات المختلفة داخل المجتمع وتشكل توازنا وسمي شكل الدولة بنظام متعدد الوكلاء، ولعل أكبر مثال هو ما أقره مونتسكيو في القرن الثامن عشر نحو التقسيم التقليدي للسلطات السياسية، وهو السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية لتصبح الدولة نظاما متعدد الوكلاء. ولكن اليوم حدث انفلات معلوماتي لا يمكن السيطرة عليه من جانب نظام سياسي في أي دولة كانت بسبب إحداثيات الثورة الصناعية الرابعة، فأصبحت الشركات متعددة الجنسيات والجامعات والأفراد لديها كم من المعلومات يقوض سلطة الدولة التقليدية، لذا فإن تطور شكل الدولة أصبح إلزاما وليس رفاهية لتحقيق استقرار سياسي.

ناقش لوتشيانو فلوريدي أستاذ اخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد الأزمة من جوانبها وأكد أن الدولة الكلاسيكية سيطرت على المعلومات خاصة أثناء الحروب أو القلاقل أو السلام الهش ولعل ما واجهته الحكومة الفرنسية في ١٧٩٠ : ١٧٩٥ نحو الاحتياج لنظام اتصال معلوماتي سريع ضد مناورات بريطانيا وهولندا وبروسيا والنمسا وإسبانيا دفع كلود شاب إلى اختراع التلغراف، ولكن ما يشهده العالم اليوم حول العالم إلى مجتمع معلوماتي ليتحكم في قرارات واحداث سياسية ضد قوة الدول ذاتها ويدلل أن المؤسسات التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية مثل البنك الدولي وصندوق النقد واتفاقية الجات هم وكلاء أيضا جعلوا من الدولة هي وكيل لتنظيم العلاقات بين الواقع الخارجي والداخلي.

من بين أقوي ١٠٠ اقتصاد عالمي يوجد ٥١ شركة و٤٩ دولة، لذا أصبحت تحركات هذه الشركات وقرارتها أخطر من دول، ولعل دور التكنولوجيا المعلوماتية يشغل جزءا ضخما من أدواتها ثم استثماراتها وأبحاثها لذا فإن هذه المعطيات هي شكل للنظام العالمي الحالي أو مستقبل البشرية.

ويذهب فلوريدي إلى أن أزمات مثل العدالة الاجتماعية والتطرف الديني  والحروب لا تستطيع دولة حلها بمعزل عن إرادة وكلاء على الصعيد العالمي.

حدد فلوريدي أربعة عوامل في تحول شكل الدولة :
أولا : وجود وكلاء للمعلومات قد يكونون أكثر تأثيرا من الدولة مثل القطاع الخاص والمجتمع المدني سواء منظما أو لا.

ثانيا: انكسار الحدود السياسية الجغرافية بسبب تكنولوجيا المعلومات فأصبح العالم قرية معلوماتية.

ثالثا: قدرة التكنولوجيا على صناعة تنظيمات أو تفكيك أو إضعاف تنظيمات سياسية أو اجتماعية وإعادة التجميع المرن والسريع والمؤقت عند الطلب لتصبح في بعض الأحيان أقوي من الدولة التقليدية.

رابعا: الترويج نحو الديمقراطية المباشرة وتفعيلها كهدف مثالي، ولكن هذا النوع من الديمقراطية تقوده وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وأصبح التأثير قد يأتي من خارج كيان الدولة.

ولعل أزمات سياسية أو اقتصادية قد تقوض سلطة الدولة مثل أزمة إفلاس اليونان التي انصاعت لقرارات المؤسسات الدولية (الوكلاء الدوليين) أيضا ما حدث للحكومات العربية أثناء ثورات الربيع العربي والأخطر أن النزعات الانفصالية طالت إسبانيا وإيطاليا وإسكتلندا إلى ألمانيا وبلجيكا في دول كان ينظر إليها أن نظم مستقرة في توجه عالمي نحو لامركزية متوقعة لذا فقد ظهر مصطلح استمالة الدولة التقليدية نحو البقاء أمام الثورة المعلوماتية.

ويري فلوريدي أن شكل الدولة القادر على مواجهة التحديات والبقاء هو النظام السياسي متعدد الوكلاء وله عدة صفات هي: له هدف وتفاعلية مع البيئة المحيطة واستقلال ذاتي نحو التغير الداخلي والمرونة ثم التكيف المستمر مع المتغيرات وذهب أنه يجب أن يصبح نظاما سياسيا ذكيا أشبه بالذكاء الصناعي.

إن شكل الدولة التقليدي هو جزء من التاريخ البشري، وقد ينظر لنا أحفادنا مثل قبائل الأمازون إذا استمرت الحضارة البشرية بالاعتماد على أدوات التكنولوجيا والذكاء الصناعي، ولعل مشروع نيوم السعودي هو بداية صناعة حكومات يحكمها الذكاء الصناعي لا البشر.. قد يكون هناك نظام أفضل وسلام وتطور ولكن.. الأخطر أننا أمام تجربة تكنولوجية خطيرة لا ندرك نتائجها نحو انحلال الدول على مستقبل البشرية.
الجريدة الرسمية