رئيس التحرير
عصام كامل

رحلة إنقاذ مومياء


كانت طائرة أحد رؤساء أمريكا بالهواء في طريقها لإتمام رحلتها، عندما مازح المساعد رئيسه وسأله إذا كان خائفًا من سقوط مفاجئ للطائرة.. كان رده هادئًا أن سقوط الطائرة يعني شيئًا واحدًا وهو أن وسائل الإعلام بأكملها ستنشغل بوفاة الرئيس، لأنه الحدث الأكثر بريقًا وتنسى مسألة موت المساعد تمامًا.. وهو نفس ما حدث مع الفنان "منير مراد" الذي توفي بعد اغتيال الرئيس السادات، فنسيت وسائل الإعلام أمره تمامًا لانشغالهم بتداعيات اغتيال الرئيس، ولم يُنشر نعيه إلا على استحياء وبعد أيام من رحيله.


تتكون "الفسيفساء" من الكثير من المكعبات الصغيرة التي لا يمكن إهمال إحداها على حساب الآخر، وإلا فقدت الصورة بأكملها جمالها وزخرفتها.

الأيام الماضية حملت ذكرى الحفل الأسطوري لافتتاح قناة السويس، وهو ما جعلني بهذه المناسبة أتذكر مشهدًا أقل بريقًا من صخب الحفل وبعيدًا عن ضيوفه المشاهير لكنه يتعلق بضيف لم يكن وقتها محط الكثير من الأنظار، لكنه كان قطعة خشب صغيرة في تحفة أرابيسك رائعة لا يمكن تجاهلها وإلا فقدت التحفة بأكملها جمالها.

كان صيف 1992، ولم يكن بالأذهان أن مصر ستمر في الربع الأخير من ذلك العام بكارثة الزلزال الشهير، لكن يومها حدث زلزال من نوع آخر جعل الجميع يقفون في أماكنهم كالأشجار غير قادرين على التصديق، فالأمر لم يكن هينًا.. كان "الونش" يتحرك حاملًا الركام، أثناء بناء إحدى كليات جامعة الإسكندرية، عندما ظهرت وسط المخلفات جثة أحدهم، مرتديًا ملابسه كاملة، وهو يرفع إحدى يديه للسماء، ويغطي رأسه القليل من الشعر، وتبين أنها جثة محنطة!

بدأت رحلة البحث عن صاحب المومياء، ليتم الاكتشاف أن صاحبها هو الدكتور يوهانز شيس، السويسري الذي جاء لمصر بدعوة من الخديو إسماعيل لحضور حفل افتتاح قناة السويس، وانتهى مصيره جثة محنطة محمولة فوق "ونش" بعد أكثر من قرن!

أما تفاصيل القصة التي روتها الكتب، فقد حضر "شيس" حفل الافتتاح وقرر بعدها الإقامة في مدينة الإسكندرية، ليتولى عدة وظائف بها مساهمًا في تطويرها منها إدارته للمستشفى الأميري بالإسكندرية.

وعندما حانت ساعة الرحيل طلب السويسري دفنه في المستشفى الأميري داخل تابوت روماني محنطًا على طريقة المصريين القدماء، لكن بمرور الزمن أُهمل التابوت وسقط اسم صاحبه، وقاموا بنقله من مكانه ظنًا أنه مجرد تابوت أثري فارغ، وهو ما أدى إلى تفجر قصة الرجل عند ظهور المومياء وسط الركام المنقول، ليدفن مجددًا لكن في المقابر البروتستانتية بالإسكندرية تحت إشراف حفيد ابنته الذي تصادف أن يكون قنصل سويسرا في المدينة في ذلك الوقت.

الإسكندرية قطعة خشب نادرة في تحفة أرابيسك مصرية، لها خصوصيتها وتفردها، يمتلئ سجلها بالتاريخ والرموز الملهمة من المصريين والأجانب، ومهما كان انشغالنا، وبريق الأحداث والصعوبات التي تشدنا إليها فلا يجب أن نهمل المدينة ونتركها للتحول إلى "مومياء" في انتظار "ونش" يرفعها مع الحطام.

(تعقيب على مقال الأسبوع الماضي)
في مقال الأسبوع الماضي بعنوان (الله يرضى عليك) انتقدت تعنت موظفة بالتأمينات والمعاشات مع الكاتب الكبير وديع فلسطين.. وهو الأمر الذي فجره الأستاذ "لويس جريس" وأثار غضب الآلاف عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

خلال الأيام الماضية أرسلت الدكتورة غادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي، وفدًا من الوزارة إلى الكاتب الكبير "وديع فلسطين" لحل المشكلة مع "بوكيه ورد" اعتذارًا عما حدث بجانب الإعلان عن فتح التحقيق مع الموظفة.

ورغم وجود الكثير من ضحايا تعنت الموظفين على طريقة فيلم (أربعة في مهمة رسمية) إلا أن الكثير من المآسي لا تجد طريقها لوسائل التواصل الاجتماعي أو صفحات المواقع والجرائد لكن يبقى الموقف الإنساني للوزيرة يستحق "بوكية ورد" احترامًا وتقديرًا لها.
الجريدة الرسمية